منذ أن كانت البحرين وكان شعبها، كان الكفاح ضد الغزاة والمحتلين، وعلى الرغم من كل المؤامرات ضدها كانت دائماً تتمتع بالحكم الذاتي من قبل حكام محليين مما حافظ على نظامها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي؛ وهو ما يكفل لها الحرية والاستقلال.
سحب الظلام:
استهدف الاستعمار الاوروبي نقاط القوة هذه، فسرق الاستعمار البرتغالي أساطيل الملاحة العربية لشعوب المنطقة وحرقها، مما أدى لتدهور الاقتصاد في المدن والموانئ كالبحرين والبصرة وهرمز.
ومع ضعف أساطيل المسلمين، احتل البرتغال جزيرة هرمز عام 1506م، وهاجموا البحرين في عام 1521م حينما كان حاكمها مقرن بن زامل مسافراً لأداء فريضة الحج في أطول معركة للبرتغاليين في الخليج، وعند عودته حشد قواته لمواجهة الاحتلال البرتغالي، مما أدى لوقوعه أسيراً لدى البرتغاليين الذين قتلوه، فكان أول إعدام لحاكم في الشرق تقوم به البرتغال.
عمد البرتغاليون عندئذ لتنصيب حاكم ناصبي من بلاد فارس، لئلا يميل إليه أهل البحرين، وهم من العرب المعروفين بحبهم لآل البيت، وهذا ما يذكره المؤرخ العلامة الشيخ يوسف البحراني في كتابه لؤلؤة البحرين، بقوله:
« لما كانت بلدة البحرين تحت ولاية الإفرنج (البرتغاليين) جعلوا واليها رجلا من المسلمين ليكون أدعى إلى تعميرها وأصلح بحال أهلها [كما زعموا]، وكان هذا الوالي من النواصب، وله وزير أشد نصبا منه يظهر العداوة لأهل البحرين لحبهم لأهل البيت (ع) ويحتال في إهلاكهم وإضرارهم بكل حيلة»
لم يكن الحكم البرتغالي مستقراً، حيث كانت الثورات وحركات المقاومة دائمة، ولهذا استحدثوا لأول مرة سياسة تغيير التركيبة السكانية وذلك باستيراد اعداد كبيرة من المرتزقة –خصوصاً من بلوشستان- مع إثارة النعرات الطائفية والقومية كي يتمكنوا من مواصلة الاحتلال، إلا أن مخططهم فشل، حتى أن سنوات السيطرة الفعلية للبرتغال لم تتجاوز الـ 40 سنة، حتى قام الحاكم المُنصب من قبل البرتغال بابتزاز تاجر بحراني، ثم قتله؛ مما أشعل انتفاضة عارمة هاجمت القلعة المعروفة بقلعة العجاج، وقتل الحاكم وطرد المحتلين وذلك في عام 1602م.
الاستعمار البريطاني:
تأسست شركة الهند الشرقية عام 1600م بمرسوم من الملكة إليزابيث الأولى،بسلطات احتكارية على تجارة الهند وجميع مستعمراتها، ثم صارت مؤسسة تحكم جميع المستعمرات البريطانية بدعم سياسي وعسكري من بريطانيا، وقد كانت تجربة الاستعمار البرتغالي الفاشلة، عظيمة الفائدة للمستعمرين الجُدد، فالبحرين كانت من أول الأماكن التي اجتذبت اهتمام ممثلي شركة الهند الشرقية الذين قدموا لمسؤوليهم اقتراحاً باحتلال البحرين عسكرياً عدة مرات، إلا أن رئاسة الشركة في الهند رفضت ذلك رفضا قاطعا في كل مرة، لما كان لديها من مخطط بعيد الأمد، للسيطرة على الخليج سيطرة كاملة ودائمة، وقد كانت الخطة ترتكز على التالي:
أولاً: زعزعة أمن واستقرار الخليج الذي حرص عليه السكان والحكام المحليين طيلة قرون، وذلك بدعم قطاع الطرق والقراصنة، ودعوتهم للهجرة؛ لممارسة الإجرام في المنطقة.
ثانياً: الإضرار بشعوب المنطقة بكل وسيلة، وهو ما كان الاستعمار البرتغالي يمارسه عبر الحاكم الذي نصبوه، وذكر الشيخ يوسف البحراني سياستهم تلك بقوله: «ويحتال في إهلاكهم وإضرارهم بكل حيلة».
ثالثاً: تنصيب حكام جُدد لا يتورعون عن ارتكاب أي رذيلة؛ لافتقارهم للقيم الأخلاقية والإنسانية التي تتمتع بها الشعوب المتحضرة، ولا ينتمون للشعب ولا للمنطقة، لئلا تكون تلك الأواصر سبباً لاستقلالهم عن الاستعمار البريطاني، وليس أفضل لهذه المهمة من استجلاب قطاع الطرق من صحاري شبه الجزيرة العربية، وهم حلف العتوب.
رابعاً: استجلاب الأراذل والمجرمين للعمل، كمرتزقة، لدى العملاء المنصبين كحكام؛ وذلك لضمان سير المخطط قبال أي حراك جماهيري من جانب، وتهديد الحاكم المنصب ببدائل أخرى تتنافس لخدمة الاستعمار من جانب آخر.
خامساً: الإبقاء على العملاء المنصبين كحكام بكل وسيلة ممكنة حتى الدعم العسكري المباشر.
لم يكن لشعب البحرين إلا مواجهة المؤامرة، فكانت أول وثيقة تأريخية تؤرخ هذا الكفاح ضد عصابات العتوب قبل تمكنهم من غزو البحرين عام 1783م بحوالي قرن، هو كتاب "لؤلؤة البحرين" حيث يذكر مؤلفه العلامة الشيخ يوسف البحراني ذلك:
« وكان مولد أخي الشيخ محمد -مُد في بقائه- سنة 1112 هـ [أي 1700 م]… وفي هذه السنة سارت الواقعة بين الهولة والعتوب حيث أن العتوب عاثوا في البحرين بالفساد ويد الحاكم قاصرة عنهم، فكاتب شيخ الإسلام محمد بن عبدالله ابن ماجد الهولة ليأتوا على العتوب، وجائت طائفة من الهولة ووقع الحرب وانكسرت البلد الى القلعة أكابر وأصاغر حتى كسر الله العتوب» [لؤلؤة البحرين، 425]
لم يتوقف الكفاح ضد عصابات العتوب بعد تمكنهم من غزو البحرين عام 1783م بعد مجزرة قاموا بها ليلاً في جزيرة سترة، فكانت نتيجة حركات المقاومة المحلية مجازر جماعية واغتصاب ممتلكات شعب البحرين من مزارع ومنازل، إضافة لعمليات التهجير الجماعية، ومن محاولات تحرير البحرين هذه ما ذكره العَلامة المؤرخ الشيخ علي البلادي البحراني ضمن الأحداث التي عاشها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر:
« وكان السيد شبر [الستري] المذكور في آخر عمره، أخذته الغيرة الإيمانية على ما جرى على أهل البحرين من الحكام المتغلبين عليها من الظلم والعدوان، وغصبهم الأموال، وتشتتهم في كل مكان، وأداه نظره واجتهاده إلى جمع العساكر من أهل البحرين والقطيف الساكنين هناك؛ لأخذ بلاد البحرين من أيدي اولئك المتغلبين الظالمين، فاقتضى نظره الشريف أن يستند أولاً إلى سلطان العجم وهو ناصر الدين شاه القاجاري ليكون له ظهراً، فلما سمع بذلك المتغلبون عليها هنالك أرسلوا إلى حاكم شيراز بالهدايا الكثيرة والبراطيل الوفيرة لكسر سورة ذلك السيد » [أنوار البدرين في تراجم علماء الإحساء والقطيف والبحرين]
قام الحكام من عصابة آل خليفة بتوقيع العديد من المعاهدات مع الاستعمار البريطاني؛ ليتم حمايتهم من ثورة الشعب، مثل معاهدة العام 1814م، ومعاهدة العام 1820م، ومعاهدة العام 1861م، ولم تكن النتيجة ثورة الشعب عام 1869م تمكن الثوار من القبض على علي بن خليفة آل خليفة وإنزال عقوبة الاعدام به، فانطلق الكولونيل بلي من بوشهر ببارجتين حربيتين وحاملتي جنود، وقصف مدينتي المنامة والمحرق بالقنابل، واعتقلوا جميع أبناء الشعب المناوئين للاستعمار البريطاني ومن ينصبوه من عصابة آل خليفة، ونفوهم إلى بومبي، وقد انتقم الاستعمار لعميلها السابق علي آل خليفة بتنصيب ابنه عيسى حاكماً على البحرين، وعاونوه في ممارسة أبشع المجازر في صفوف الشعب.[كفاح شعب البحرين، 31]
على الرغم من كثرة عمليات المقاومة المحلية ضد الطغيان الخليفي، إلا أن مطلع القرن العشرين اتسم بالتنظيم العام والشامل لكل مناطق البحرين؛ ولهذا حاز الحراك السياسي في البحرين بعد ذلك باهتمام المؤرخين بشكل أكبر، والتي اتسمت كلها برفض عصابة آل خليفة، وسنكتفي بعرض نماذج لهذا الحراك السياسي:
1921م: التقى زعماء البحارنة بالمعتمد السياسي وذكروه بالمسؤولية المزدوجة للحكومة البريطانية تجاه الحاكم وتجاه شعب البحرين، وقالوا: «بما أن بريطانيا ملتزمة بحماية حكومة الشيخ ضد أي نوع من التهديد فإن من اللازم عليها كقوة حامية، أن تحمي الشعب أيضاً من ظلم العصابة»؛ وعندما زار المقيم السياسي البحرين (21 ديسمبر) حاول عيسى آل خليفة الحصول على عريضة من البحارنة لتأييد حكومته، ولكنه فشل في ذلك، وقد سلم الشعب البحراني للمقيم السياسي عريضة كان فيها:
«نود أن نعرض لصاحب الحكمة الكبيرة والمزاج الطيب رئيس الخليج، بأن البحارنة في حالة إذلال كبير وتتعرض لمجازر علنية، وليس لهم ملجأ ولا تقبل شهادة أحد منهم، وممتلكاتهم معرضة للنهب وهم معرضون لسوء المعاملة في كل لحظة، والظلم يزداد كل يوم … ولذا انقذنا يا رئيس قبل أن نفنى»
وقد كان الجواب الذي أرسل للمقيم السياسي بتاريخ 31 يناير 1922م:
«إن حكومة الهند غير مستعدة للقيام بعمل جذري بخصوص سوء الحكم في البحرين إلا عندما تطمئن بأن كل وسائل الضغط المحلية قد استنفذت، وأن هذا التدخل أصبح ضرورياً لحماية الأجانب وحماية وضعنا في البحرين»
عمل الاستعمار على تثبيت حكم عصابة آل خليفة بوأد كل الحراك الجماهيري، فكان عزل أيقونة من النظام، وتنصيب أخرى في العشرينات، فيما استمر الاضطهاد العام للشعب فكان الإضراب العام للمدرسين والطلبة، وإضراب الغواصين، وإضراب الجزارين، وإضراب عمال شركة النفط (بابكو)، وإضراب الخبازين وسائقي سيارات الأجرة وغيرها من المهن بعد ذلك، حتى كان هيئة الإتحاد الوطني.
هيئة الإتحاد الوطني:
تمثل هيئة الإتحاد الوطني أول وأقوى حراك وطني يفضح سياسة القمع لدى عصابة آل خليفة والاستعمار البريطاني والغدر الذي جبلوا على ممارسته، كما يبين عمق المؤامرة الخليفية وأدواتها، مثل تأجيج الطائفية واستجلاب المرتزقة لقمع الشعب، وهو ما وثقه المناضل عبدالرحمن الباكر والذي لم يمنعه انتمائه للطائفة السنية أو حتى أصل عائلته القطرية من أن يصبح الأمين العام لهيئة الإتحاد الوطني التي ضمت الشيعة والسنة، وكان منه في موضوع اصطناع الصراع الطائفي:
«حينما علم الانجليز بالدور الذي قمت به لتخفيف حدة التوتر بين الطائفتين، الأمر الذي فشل فيه الكثيرون من ذوي الأغراض الخاصة، أوعزوا إلى حاكم البحرين أن يأمرني بمغادرة البلاد إلى لبنان لمدة ثلاثة أشهر، ولم يكن قد مضى شهران منذ رجوعي من لبنان» [من البحرين الى المنفى، ص40].
رجع الباكر من لبنان، ويذكر في أول محاولة للجمع بين شباب من الطائفتين ما نصه:
«في اليوم الثاني قمنا باتصالاتنا بالقرى التي يقطن معظمها السنة، وقام الشيعة بنفس الاتصالات، وما أن علم حاكم البحرين بما سوف يتم حتى هاج وماج وأرسل إلى علي الوزان، والزين، والعلوي، والشملان، وإبراهيم خلفان وهددهم وقال: كل عمل تقدمون عليه لإصلاح ذات البين بين الطائفتين هو عمل موجه ضدي، وهددهم في مصالحهم وقال لهم: إنني سأمنع ذلك الاجتماع الذي تنوون عقده في المحرق بالقوة، حتى لو اضطررت إلى إطلاق النار على المجتمعين.
فما إن سمع القوم ما هددهم به حتى انفضوا من حولي ولم أعد أراهم (…) إنه [حاكم البحرين] بعمله هذا خدم القضية أكبر خدمة من حيث لا يدري، فقد اتضح للناس أن حكومة البحرين وراء الفتنة الطائفية، ولهذا فلا حاجة بنا للاجتماع لأننا في الواقع مهدنا له تمهيداً طيباً ولمسنا الروح الطيبة لدى معظم الناس» [من البحرين الى المنفى، ص48].
أما ملف المرتزقة، فقد كان منذ بداية الغزو الخليفي، وكانت هي أيضاً أداة القمع والاضطهاد في الخمسينات، وما أشبه اليوم بالأمس في تجربة الباكر وشهادته:
«اعتقلت في الساعة الثانية من صباح السادس من نوفمبر، إذ احتلت الحي مفرزة من قوة الدفاع يقودها ضباط بريطانيون وكل أفراد المفرزة من المرتزقة الأجانب من بلوش وغيرهم، يبلغ عددهم حوالي ستين جندياً بسياراتهم وأسلحتهم الأوتوماتيكية، واتخذت القوة لها مراكز في الزوايا الرئيسية من الحي، وسدت جميع المنافذ والطرق المؤدية اليه، ثم بعد ذلك تقدمت ثلة من الجنود بخوذهم الفولاذية شاهرين حراب بنادقهم يرافقهم ضابطان، الأول برتبة ميجر، وهو بريطاني، والثاني صف ضابط وهو قبرصي، فاندفعوا نحو البوابة الرئيسية، ثم كسروا البوابة الثانية المؤدية الى بهو المنزل، ودخلوا فناء المنزل وهم يصرخون بصيحات الحرب! ونسوا أنهم جاءوا لاعتقال شخص أعزل يمكن أن يستدعى بالتلفون –دون أن يحدثوا هذه الأمور الجسام، ويقتحموا المنزل عليه وهو لا يملك حتى عصا في بيته يدافع بها عن نفسه» [من البحرين الى المنفى، ص210]
على الرغم من قمع هيئة الإتحاد الوطني ونفي رموزها، إلا أن حراك شعب البحرين بقي شعلةً لا تنطفئ، فكانت الثورة في الستينات والسبعينات والثمانينات، وكانت انتفاضة الكرامة في التسعينات حتى ثورة 14 فبراير المظفرة … وكلها تصب في سياق المواجهة التي يخوضها شعبنا منذ الغزو الخليفي، والتي عبر عنها الباكر بـ:
«ولعل خير ما يعبر عن الأوضاع الاستبدادية الشائنة والسائدة في البحرين في أيامنا هذه ما ارتكبته الفئة الحاكمة من جرم لا يغتفر في حق الشعب العربي في البحرين، ذلك الشعب الأعزل حينما أطلقت النار بوحشية على المتظاهرين من عمال وطلبة، فقتلت العشرات من خيرة الشباب وجرحت المئات وزجت بعشرات المئات في المعتقلات، كل ذلك بغية إسكات ذلك الشعب الثائر على الأوضاع السيئة التي حلت الدمار والخراب بالبلاد من الحكم الصبياني الطائش يسانده حراب الانجليز.
لا اتصور كيف يعتقد حكام البحرين أن هذه الوسيلة التعسفية التي ينهجونها ضد الشعب العربي هناك تؤدي إلى إخماد الروح الوثابة في نفس ذلك الشعب الأبي، الذي يزداد صلابة وعناداً يوماً عن يوم، لا سيما وقد مارس الكفاح وعجم عوده بالنضال المستمر منذ عشرات السنين، (…) بل ولا أغالي إذا ما قلت أنه أسفين يدق في نعش الطغاة والمستبدين (…) وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون» [من البحرين الى المنفى ، ص8].