في أعماق تاريخ البحرين، حيث تختلط الدماء الزكية بالأرض التي أنبتت الشرفاء، يقف اسم «الشيخ جمال العصفور» شامخًا كرمزٍ خالدٍ للنضال والشجاعة. إنّه رجل لم يخف من الظالم، ولم يختر حياة الذلّ على حساب الكرامة والإيمان، بل كان صوتًا مجلجلًا ضدّ الطغيان، وروحًا لا تهدأ حتى تسجّل اسمها في صفحات الخلود.
طفولة استثنائية وبداية مسار الثائر
«الشيخ جمال العصفور» الذي وُلد في العام 1958 في المحرّق، وترعرع في قرية المعامير، كان منذ صغره يحمل صفاتٍ تميّزه عن أقرانه. لم يكن طفلًا عاديًّا، بل كان ذا نظرةٍ ثاقبةٍ وإحساسٍ عميقٍ بالمسؤوليّة تجاه مجتمعه. تربّى على قيم الأخلاق والشجاعة، وأصبح منذ شبابه رمزًا للانتماء والصدق، ومحطّ إعجاب أهله وأقرانه.
في العام 1979، قرّر الشاب جمال أن يسير على طريق النضال ضدّ الظلم والاضطهاد، فأسّس «جماعة أنصار الشهداء»، ليجمع حوله قلوبًا مفعمة بالآمال، ونفوسًا تؤمن بأنّ الحياة بلا حريّة ليست حياة. كان ذلك القرار الشرارة الأولى التي أشعلت اتقاد ثورةٍ لم تنطفئ رغم المحن.
رجل الموقف: مواجهة الاعتقال والتعذيب
في مارس 1981، وقع الشيخ جمال في قبضة النظام القمعيّ. لم يكن اعتقاله حدثًا عابرًا، بل كان محاولة لإسكات الصوت الذي أرّق الطغاة. تعرّض في المعتقل لأشدّ صنوف العذاب، في محاولة لكسر إرادته وإيمانه. لكنّهم لم يدركوا أنّ هناك أرواحًا تتحدّى الحديد والنار. حُكم عليه بالسجن سبع سنوات، ظنًّا منهم أنّ القضبان قد تحدُّ من قوّة صوته، لكن كلّ لحظة قضاها في السجن كانت تزيد من صلابته وقوّة رسالته.
الاستهداف المسموم: اغتيال الجسد وخلود الروح
لم يكتف النظام بقمع الشيخ جمال عبر سجنه وتعذيبه، بل سعى إلى القضاء عليه نهائيًّا وتصفيته بطريقة جبانة لم يعرفها إلّا الظالمون؛ دسَّوا له السمّ في شهر رمضان بواحد من أحلك أمثلة الاستبداد والقمع. خرج من السجن منهك الجسد، لكنّ روحه بقيت منتصبة كعمود مشرقٍ في ليل الظلمات.
لم تمهله الآلام طويلًا، فقد استشهد في 19 أغسطس/ آب 1981، بعد يومين فقط من الإفراج عنه، ظنّ الطغاة أنّ رحيله سيُخرس صوت النضال، لكنّهم أخطأوا؛ فهناك أرواح تولد حين تُزهق، وهناك دماء تُسقى بها جذور الثورات.
وداع الشهيد: مشهد مقاومة في حضرة الموت
تشييع «الشهيد الشيخ جمال» كان صورةً بليغة للعزّة والإصرار، جموع غفيرة خرجت في وداعه متحدّية قمع النظام، ومؤكّدة أنّ دماءه لن تذهب هدرًا. الصيحات الغاضبة التي ارتفعت في تشييعه كانت إيذانًا بميلاد عهد جديد، حيث جسّد الشهيد في عيونهم حلم الحريّة.
إرث الشهيد ورسالة الثورة الممتدّة
استشهاد «الشيخ جمال العصفور» لم يكن نهاية، بل كان بداية لتاريخ ممتدّ من الكفاح في البحرين. لقد أصبح رمزًا خالدًا وحكايةً تروى للأجيال القادمة عن رجل عاش من أجل الآخرين وارتقى ليحيا الوطن.
إنّنا إذ نستذكر ذكرى استشهاده، لا نفعل ذلك فقط لاستعراض التاريخ، بل لإحياء روح الثورة والإصرار على استكمال الطريق. رسالة النضال التي خطّها بدمه الطاهر تُلهم كلّ إنسان يؤمن بأنّ العدالة حقٌ يستحقّ الكفاح، وأنّ الإصلاح يبدأ من مقاومة الظلم بكلّ ما أوتي الإنسان من قوّة.
اليوم، وبعد كلّ تلك السنوات، تبقى شعلة الشيخ جمال رمزًا لمن يرفضون الاستسلام. إنّها دعوة مفتوحة للاستمرار في مواجهة الطغاة، ولرفع أصوات الحقّ عالية لعلّها تصل إلى كلّ من يثقل كاهله الظلم، وتفتح عيون النائمين على حقيقة أنّ الظلم لا يواجه بالخضوع، بل بالثورة.
العدالة لن تنام.. والحريّة لن تُنسى
الشيخ جمال العصفور ليس فقط ذكرى، بل هو مدرسةٌ في النضال، درسٌ لمن أراد أن يفهم أنّ الكرامة حقٌ، وأنّ الدماء التي تُراق لن تذهب سدى. لطالما احتفظت الأرض بذاكرة مَن سقوها، وتحرس أحلامهم؛ واليوم، تظلّ أرض البحرين شاهدة على أنّ الحريّة أقوى من أيّ طاغية، وأنّ إرث الشيخ جمال العصفور سيتردّد صدىً في قلوب كلّ من يؤمن بإنسانيّة الإنسان وحقّه في العدالة والكرامة، وضمائرهم.