في زمنٍ تحوّلت فيه البراءة إلى حلمٍ بعيد المنال، وفي مكان تشابكت فيه الطفولة مع الكفاح ضدّ الظلم، ولد «علي جعفر» ليعيش حياة قصيرة تخبّئ خلفها إرثًا من التضحية والشجاعة. هذه القصّة التي تتسارع فيها الأحداث وكأنّها تُكتب لتكون شرارة في تاريخ نضالٍ طويل هي قصّة الطفل الذي لم يتجاوز الحادية عشرة، والتي ستظلّ تروى كملحمة من ملاحم الثورة على القهر والاستبداد.طفولة تحت الحصارالمالكيّة، تلك البقعة التي تلوّنت شوارعها بأحلام الحريّة والتي ضجّت بمسيرات الباحثين عن الكرامة، نشأ علي وسط أجواء مشبعة بأنفاس التمرّد على الظلم، كأيّ طفل في عمره، كانت الأيام الأولى من حياته مليئة باللعب والأحلام الصغيرة، لكنّه سرعان ما وجد نفسه في قلب مأساة أكبر من تصوّراته البريئة. الحراك الثوري الذي شهدته منطقته لم يكن مجرّد تظاهرات عابرة؛ بل كان صوتَ شعبٍ يئنّ تحت القمع المستمرّ للكيان الخليفيّ.الغازات السامة: بداية المعاناةكانت شوارع المالكيّة مسرحًا للعدوان المباشر من مرتزقة النظام، حيث تحوّلت أدوات القمع إلى سلاحٍ يستهدف الجميع بلا تمييز. في أكتوبر/ تشرين الأوّل 2012، وقع «علي جعفر» ضحيّة للغازات السامة التي أطلقتها قوّات النظام في محاولة لقمع الاحتجاجات الشعبيّة. تلك الغازات التي لم تكتفِ بخنق المساحات بل امتدّت إلى جسد علي الصغير، فأتت بأثر كارثيّ نتج عنه إصابته بالسرطان في العين.ما حدث لعلي كان دليلًا دامغًا على انتهاكات النظام ضدّ المدنيّين الأبرياء، وخاصّة الأطفال الذين وجدوا أنفسهم في خطّ المواجهة من دون أن يحملوا سلاحًا سوى البراءة.رحلة العلاج ومأساة الفقدقرّرت عائلة علي، في وجه هذه المأساة، أن تبحث عن بصيص أمل في العلاج، أُجبر الطفل على مغادرة موطنه والاتجاه إلى الهند للعلاج، في رحلة طويلة عاش خلالها في ألم ومعاناة جسديّة تجاوزت قدرته على التحمّل. لكنّ النظام، الذي انتزع حياته الهادئة، كان قد رسم نهايته حتى خارج الحدود، ففي الهند، فارق علي الحياة بعد صراع استمرّ لأشهر مع المرض الذي أنهك جسده.رحيله كان صاعقة للمجتمع الذي اعتاد أن تكون الثورة صوت الكبار، فجاءت شهادة الطفل «علي جعفر» لتكون جرحًا نازفًا في ذاكرة المالكيّة وشعلةً مستمرّة في طريق الكفاح من أجل الحريّة.دماء «علي جعفر».. صرخة من أجل العدالةلم تكن دماء علي مجرّد قطرات تُراق على الورق؛ بل كانت صرخة تتردّد في شوارع البحرين وبين ميادين الثوّار، برحيله البكر بات الشهيد أيقونة يتصدّر صفوف الثورة، حيث حمل الجيل الذي رآه يرتقي قضيّته عاليًا، مطالبًا بالعدالة وحقّ تقرير المصير.في مسيرته الأخيرة، احتُضن «علي جعفر» في الأرض التي ناضل أهلها من أجل الكرامة، بينما كان وجهه الصغير ينظر إلى المستقبل، وكأنّ شهادته تُخبر الأجيال القادمة أنّ الطريق إلى الحريّة يحتاج إلى تضحيات لا حدود لها. دماؤه الطاهرة باتت تؤكّد حجم البطش الذي يمارسه النظام الخليفيّ الذي لم يرحم طفولته، تمامًا كما لم يرحم حلم الطفولة في البحرين كلّها.إرث الثورة: علي كنموذجما يميّز استشهاد «علي جعفر» لم يكن فقط وقع الحدث المأساوي، بل الرسالة التي يحملها بين ثنايا المأساة. لقد أصبح علي رمزًا للطهارة في نضال مملوء بالتضحيات، وصورة تلهم الثوّار للاستمرار في مواجهة القمع والغطرسة. اسمه صار يتردّد بين الأجيال كدليل على أنّ الثورة ليست مجرّد حراك، بل هي قضيّة حياة وموت يقودها الأبرياء كما الكبار، في طريق يُعبّد بدماء الشهداء.ثورة اللؤلؤ: سبيل الأجياللم تعد ذكرى «علي جعفر» قصة تُروى في تاريخ النضال، بل صارت صرخة تُشعل الحراك الثوريّ للبقاء. الحراك الذي بدأ بثورة اللؤلؤ لم ينطفئ رغم المحاولات المتكرّرة من الكيان الخليفيّ لإنهاء المسيرة؛ «علي جعفر» ذلك الطفل الذي رحل إلى السماء، يبقى أيقونة الثورة، يُذكّر الشعب بأنّ الحريّة لا تتحقّق إلّا بالمقاومة المستمرّة والتمسّك بالأهداف رغم الألم والخسارة.في ظلّ هذه الذكرى الحزينة، لا تزال دماء الشهيد تسأل كلّ ثائر، وكلّ صاحب ضمير: هل سنسكت على الظلم؟ أم سنمضي في طريق الكرامة حتى النهاية؟سيظلّ «الشهيد علي جعفر» صورة تجسّد النضال المستمرّ، والطفولة المسلوبة، والكرامة التي يبحث عنها شعب عجز القمع عن إنهاكه، رحل بجسده، لكنّه ترك إرثًا يستمرّ في إلهام الأجيال القادمة، فالمعركة لم تنتهِ، والصرخة لا تزال تدوّي: الحريّة هي الحقّ، والعدل هو الطريق.
الشهيد الطفل «علي جعفر».. أيقونة الثورة ورمز الطفولة المقهورة

https://www.instagram.com/p/CSTkaOxikQs/