بين طيات الألم والمعاناة، وفي أقبية الظلام، تتجلّى حكايات أبطال اختاروا أن يقفوا بوجه الظلم والطغيان مهما كان الثمن، وحكاية «الشهيد محمد عبد الله يعقوب» هي إحدى هذه الحكايات التي خُلّدت بدمائه التي أُزهقت ظلمًا، لتضيء طريق الحريّة، وتمثّل شاهدًا حيًّا على ممارسات الاستبداد والقمع التي ينتهجها النظام الخليفيّ في البحرين.
معاناة وراء القضبان: التعذيب والإهمال القاتلمحمد عبد الله يعقوب، شابٌ في الثانية والثلاثين من عمره لم يكن يحمل سوى حلم الحريّة والكرامة لوطنه وأبناء بلاده، لكنّ النظام الخليفيّ الطاغي لم يتحمّل صوته وموقفه الثابت مع ثورة شعبه. في سبتمبر/ أيلول 2015 اعتُقل محمّد لتبدأ رحلة معاناته في أقبية السجون وساحات التعذيب. في سجن «الحوض الجاف»، تعرّض لصنوف من التعذيب الوحشيّ الذي تقشعرّ له الأبدان، من الصعق الكهربائيّ إلى الإهمال الطبيّ الممنهج الذي حوّل جسده الشاب إلى ساحة للأمراض والآلام.لم يكن خروج الدم من فمه سوى ناقوس خطرٍ أطلقه جسده المنهك، لكن هل استجابت إدارة السجن؟ بالطبع لا.فلا احترام هناك لإنسانيّة إنسان ولا قيمة لحياة المعتقلين في عيون الطغاة؛ استمرّ التعذيب والإهمال الطبيّ حتى نُقل إلى سجن «جَوّ» الذي يُعدّ رمزًا للقمع والتنكيل في البحرين.التهم الملفّقة والمحاكمات الصوريّةوكأنّ التعذيب والإهمال لم يكفيا، أضاف النظام الخليفيّ الطاغي فصلًا آخر من فصول قمعه عبر المحاكمات الصوريّة والأحكام الجائرة. في أكتوبر/ تشرين الأوّل 2016، صدر عليه حكم بالسجن المؤبّد وإسقاط الجنسيّة وغرامة قدرها 200 ألف دينار بتهمة «الانضمام إلى جماعة إرهابيّة»، وهي تهمة بات النظام يوزّعها جزافًا على كلّ من يرفع صوته ضدّ جبروته. لقد مارس النظام كلّ أشكال البطش لإخماد صوت محمّد وكلّ من شارك في ثورة 14 فبراير المجيدة، ولكنّه لم يدرك أنّ روح الأحرار تُخلّد في ذاكرة الشعوب.رحلة الألم حتى الشهادةمع مرور السنوات في أقبية السجون، بدأ المرض يلتهم جسد محمد في ظلّ الإهمال الطبي المتعمّد، هشاشة العظام، نقص الخميرة، وأمراض متفاقمة أخرى كانت نتيجةً مباشرة لممارسات السجن القمعيّة. وفي العام 2021، جاءت الإصابة بفيروس كورونا لتضيف المزيد من المعاناة، ثمّ تلتها صدمة إصابته بسرطان الرئة، وهي المرحلة التي كشفت بوضوح همجيّة النظام الخليفيّ وإصراره على الانتقام من محمّد حتى النهاية، ولا سيّما مع حرمانه لقاء والده أو الحصول على العلاج الضروري. وبين أسِرّة المستشفيات وسجونه القاتمة، فارق محمّد الحياة في معركة غير متكافئة ضدّ الإهمال والتعذيب والاستبداد، لكنّه خرج منتصرًا بروحه الحرّة التي لم تُكسر أبدًا.الطغاة إلى مزبلة التاريخدماء الشهيد محمد ليست الأولى ولن تكون الأخيرة التي يريقها على يد النظام الخليفيّ الطاغي. هذا النظام الذي يدّعي تمثيل الشعب ويصمّ آذانه عن مطالبهم المحقّة، يراكم جرائمه يومًا بعد يوم، مصيره محتوم إلى محاكم التاريخ حيث لن تجد كلّ هذه الجرائم سوى الإدانة والعقاب.إنّ الإهمال الطبيّ الذي تعرّض له محمّد ليس حادثة فرديّة، وإنّما سياسة ممنهجة يتبعها النظام الخليفيّ لإذلال المعارضين وكسر إرادتهم. ولكنّ هذه المحاولات عبثيّة، فقد أثبت التاريخ أنّ الدماء الطاهرة تصنع الثورات، وأنّ أرواح الشهداء تكون بالمرصاد في وجه الطغاة مهما طال الزمن.رسالة إلى الأحرار: الوفاء للشهيدفي ذكرى استشهاد «محمد عبد الله يعقوب»، نجدّد عهدنا بأنّنا لن ننسى ولن نسامح؛ إنّ دماءه ودماء كلّ الذين سقطوا في سبيل الحريّة تبقى أمانة في أعناق الأحرار. يجب أن تستمرّ شعلة النضال حتى يتحقق حلم محمّد وكلّ شهداء البحرين: وطنٌ حرٌ خالٍ من الاستبداد، تُصان فيه الكرامة الإنسانيّة وتُحترم حقوق الإنسان.فلنكن صوت الشهيد «محمد»، ولنحمل قضيّة المعتقلين والمظلومين في البحرين إلى كلّ مكان، نفضح ممارسات النظام الخليفيّ، ونطالب بمحاكمة عادلة لكلّ من تلطّخت يداه بدماء الأبرياء. تضحيات محمّد جعلته رمزًا للثورة، وصوته الذي حاول الطغاة إسكاتَه بات يصدح في أرجاء العالم، يذكّر الجميع بأنّ إرادة الشعوب لا تُكسر.الشهيد يحيا في ضمير الأمّة«محمّد عبد الله يعقوب» ليس مجرّد اسم أو صورة عابرة؛ إنّه رمزٌ للنضال والصمود. هو شاهدٌ على جبروت الطغاة، وأيقونة الثورة التي لا تخبو جذوتها مهما قست الظروف، لقد كتب قصّة نضاله بدمه، وعلّمنا أنّ الأوطان تُبنى بدماء الأحرار؛ فرحمك الله يا محمّد، وليكن ذكرك وقودًا لأجيال من الثائرين الذين لن يهدأوا حتى تطلع شمس الحريّة على وطنك وكلّ أوطان المقهورين.