تكرّم الذاكرة الوطنيّة بعمق يومًا فريدًا حين فقد الوطن أربعة من شهدائه، غيّبهم الموت في توقيت واحد، ولكن بمصائر متباينة.
في ذلك اليوم، ارتقى أوّلهم «سعيد علي حسن السكري» نتيجة استنشاقه الغازات المسيّلة للدموع. والتحق به تاليًا «عباس جعفر الشيخ» متأثرًا بمضاعفات مرض السرطان بعد إصابته بالعديد من شظايا الشوزن وقنبلة صوتيّة في ظهره. بينما نال الشهيد «منتظر سعيد عبد الحسن فخر» شرف الاستشهاد في حادث مروري مع سيارة تابعة لوزارة الداخليّة. كذلك، في هذا اليوم المحفور في تاريخنا، نتذكر الشهيد «محمد إبراهيم علي يعقوب» الذي نال الشهادة بعد تعرّضه لملاحقة ودهس متعمد من دوريّات أجهزة النظام في أثناء مشاركته بتظاهرة سلميّة. وعلى الرغم من تنوّع أسباب رحيلهم فقد سطّروا معًا فصلاً من فصول الوفاء للوطن، مترجمين بتضحياتهم معاني الكفاح من أجل العدالة والحريّة.
– الشهيد عباس جعفر إبراهيم محمد الشيخ
لم يتجاوز ربيعه الخامس والعشرين، من منطقة الديه، روى بدمائه الزكيّة تراب الوطن. التحق بركب الشهادة في الخامس والعشرين من يناير لعام 2012، مختتمًا حياته في مستشفى السلمانيّة بعدما أفنى شبابه في سبيل قضيّة يؤمن بها. عباس، الذي كان حلمه صوتًا يصدح بحريّة الشعوب وكرامتها؛ وجد في كلّ زاوية من زوايا النضال ملجأً لإنصاف الإنسانيّة.
عباس الشيخ الذي واجه مرض السرطان في غمرة شبابه، لم يجابه هذا العدو الخفيّ في سريره فحسب، بل وهو في أتون المعترك وهرج المظاهرات. استبسل بمواجهة الشظايا المتطايرة وأصوات القنابل الصاخبة. تراكم جراحه لم يسفر فقط عن آلام جسديّة، ولكن أدى أيضًا إلى إصابته بمرض أشدّ فتكًا، مرض السرطان، الذي نشأ كنتيجة مباشرة لهذه الإصابات. حملته تلك الإصابات إلى أروقة المستشفى حيث كشفت الفحوصات عن المرض الخبيث. بقوّة الأسود وشجاعة الأبطال، خاض عباس معركته الأخيرة ليغادرنا بصمت، تاركًا وراءه إرثًا من الشجاعة وإيمانًا راسخًا بأنّ الحقّ لا بدّ أن ينتصر.
– الشهيد سعيد علي حسن السكري
نحيي ذكرى هذا الرجل الذي أمضى ستين عامًا من حياته يرحل بين مناطق النعيم وإسكان عالي، محمّلاً بأوجاع البسطاء وقضايا الناس. على الرغم من تقدّمه في السنّ حتى الستين، قدّم الشهيد سعيد نموذجًا يحتذى به في الإخلاص والاستمرار على مبادئه وقيمه التي احتضنها بكلّ جوارحه طوال حياته. استشهد في منزله بإسكان عالي في الخامس والعشرين من يناير لعام 2012، وخلّف وراءه قصّة من الفخر بالانتماء لتراب الوطن والتضحية في سبيل مستقبله العادل.
مساء الأربعاء الموافق 25 يناير 2012، وقعت أحداث مأساوية كانت كفيلة بتغيير مجرى حياة الشهيد سعيد السكري وعائلته إلى الأبد. شهدت منطقة إسكان عالي محاولة قمع قوات المرتزقة لتظاهرة سلميّة خرجت لتعبّر عن مطالبها المشروعة. في إطار سعيها لإسكات صوت الحريّة، استخدمت القوات كميّات كبيرة من الغازات السامة، ما أدّى إلى تلويث الهواء بسموم قاتلة. وفي ظلّ هذا الهجوم الوحشي، تعرض منزل الشهيد سعيد إلى هذه الغازات الخطيرة، ما أسفر عن اختناقه. بكلّ حزن وأسى، فقد الشهيد سعيد القدرة على التنفّس في بيته الذي كان يفترض أن يكون ملاذًا آمنًا له، ليسلم روحه إلى بارئها متأثرًا بفعل الغازات السامة داخل منزله الواقع في موقع يشهد حادثة الاستشهاد. وبهذا المصاب الجلل، خسرت الحركة الوطنيّة رمزًا من رموزها، وخسرت الأسرة عائلها ومعيلها الذي آمن بقضيّة عادلة ودفع حياته ثمنًا لقناعاته.
– الشهيد منتظر سعيد عبد الحسن فخر
يحفظ التاريخ ويختزن الوجدان روح الشهيد منتظر فخر، الذي غادر عالمنا في عمر ناهز السابعة والثلاثين عامًا، تاركًا وراءه إرثًا من الشجاعة والإخلاص. مسقط رأسه الديه كان مسرحًا لحياته ونشأته، حتى دُوّنت صفحته الأخيرة على أعتاب مستشفى السلمانيّة في ذلك اليوم الأليم الموافق للخامس والعشرين من يناير 2012، والذي شدّ روحه إلى بارئها.
وقعت الحادثة التي أنهت حياته في ساعة هادئة من فجر يوم أربعاء، حيث شهد شارع البديّع حادثًا مروريًّا غامضًا. شرحت الرواية الرسميّة لوزارة الداخليّة الحادثة بأنّها نتاج اصطدام بين منتظر ودوريّة أمنيّة، أدى إلى إصابات بليغة استدعت نقله فورًا إلى مستشفى السلمانيّة. لكنّ الشهادات المُستقاة من شهود عيان والصور المنتشرة التي أظهرت المغدور مقيّدًا ومعصوب العينين داخل مركبة أمنيّة، تشي بتفاصيل أكثر قتامة، بما فيها تعرّضه للضرب المبرح والاحتجاز قبل رحيله. ومع آثار الدم على ملابسه تُخلد صورته مشهدًا يجسّد ثمن الحريّة والكرامة التي قدّمها منتظر كأغلى ما يملك.
– الشهيد محمد إبراهيم علي يعقوب
ليلة الخامس والعشرين من يناير لعام 2012، افتقدت جزيرة سترة، وتحديدًا منطقة سفالة، أحد شبابها الواعدين، الشهيد محمد يعقوب، الذي لم يبلغ من العمر سوى 19 ربيعًا. بعد تعرّضه لملاحقة ودهس متعمّد من إحدى الدوريّات الأمنيّة وهو يشارك في تظاهرة سلميّة بمنطقته. تحوّلت لحظات المطاردة إلى مأساة حينما هاجمت قوّات المرتزقة المتظاهرين بسرعة جنونيّة، ما أدّى إلى اختطاف محمد مع مجموعة من رفاقه. مساء ذلك اليوم المشؤوم، أعلنت وزارة الداخليّة وفاته في مستشفى السلمانيّة، مدّعية أنّ الوفاة كانت بسبب مضاعفات مرض مزمن كان يعاني منه الشهيد، فقر الدم المنجلي. ولكن، كذّب الرواية الرسميّة شريط مصور للحظات الملاحقة والاستهداف الوحشي التي تعرّض لها محمد، موثقًا الظلم الذي واجهه قبل اختطافه وإعلان وفاته. لحظة النهاية لمحمد لم تكن مجرّد رحيل فرد بل كانت شاهدة على الضغوط والملاحقات التي يواجهها من يطالبون بحقوقهم وحريّتهم في التعبيرعن آرائهم بطريقة سلميّة.
– عهد ووفاء لأرواح الشهداء
إنّ اليوم الذي نذكر فيه تضحيات الشهداء هو يوم نجدّد فيه العهد مع القيم والمبادئ التي قاتلوا من أجلها، بل وضحّوا بأثمن ما يملكون – حياتهم الزاهية. فالشهداء الأربعة، وأمثالهم من الشهداء الأبرار، لم يكونوا مجرّد رقم في سجل التاريخ، بل كانوا صنّاع التاريخ الذي يشهد على بطولاتهم. حياتهم كانت لوحات فنيّة تجسّد مفهوم البطولة الحقيقيّة، واستشهادهم كان تذكيرًا لنا جميعًا بأنّ هناك دائمًا ثمنًا للحريّة، وأنّ البطولة تعني الصمود في وجه الظلم والاستبسال في الدفاع عن الحقّ والعدالة. فليبقَ الشهداء مشاعل تضيء الدرب لنا، ولتزهر الأرض بذكراهم الطاهرة، مشهدًا حيًّا نستلهم منه دروس العزّة والشموخ