ألقى سماحة الفقيه القائد آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم كلمة في درسه الأسبوعيّ حول أربعينيّة سيّد شهداء المقاومة «السيّد حسن نصر الله»، هذا نصّها:
لماذا تكريم نصر الله؟
التكريم طبعاً لمن كَرُم، التكريم لمن نفع، التكريم لمن هدى، التكريم لمن مثّل شعلة هدىً في الحياة، ولمن كان دوره دورٌ يحتاجه الناس ويضطرون إليه، ويشعرون بثمراته وعطاءاته، هل كان السيد كذلك؟
من هو السيد؟ لنجيب على ذلك نسأل من هو السيد؟ هذا الذي على دنيا الإسلام كلّها أن تهتم به، وعلى كلّ قلبٍ فيه إنسانيةٌ أن تحزن لموته، وعلى الناس كلّ الناس أن يفصحوا عما يعرفون من عظمته، من هو السيد؟
السيد إيمانٌ متجذّرٌ ناضج، متجذرٌ راسخ غير مهتزّ، أرضيّة هذا الإيمان لا تميل، علمٌ ثرّ صحيح، فكرٌ وقّاد دليله إنتاجاته ودوره القيادي الذي لا يتهمه أحدٌ بالقصور أبدا، حتى أعدائه من الصهاينة لهم شهاداتٌ في حقّه، في حقّ عقليته السياسية، وفي حقّ تدبيره، وفي قدراته المتفوّقة.
خلقٌ كريم جمٌّ رائع، إنسانيةٌ كريمة، معدن طاهر، قلب زكي.
السيد أبعادٌ كماليّة متعددّة مجتمعة تُكوِّن رجلاً عظيماً قلَّ نظيره -كما في كلمة سماحة آية الله العظمى السيد السيستاني-.
السيد عواطف جميلةٌ جليلة، عواطف ليّنة وخشنة، وكلٌّ من ليّنها وخشنها ليس فيه ميلٌ عن مقتضى الدين والعقل. عواطف يشعر منها اليتيم والضعيف والغريب والمنكوب بعلاجٍ عاجل، عواطف حدّ يُنسي الإنسان مصيبته.
قيادة نموذجية، القادة كثيرون ولكن القيادة النموذجية نادرة. السيد قائدٌ يرعى وعي أمّةٍ رساليةٍ واسعة. تعامله ليس مع أناس سذّج، ليس مع أناس بسطاء، ناسٌ من النخبة، من العلماء، من المختصين الكبار، من أصحاب الرصيد الاجتماعي الكبير، من أصحاب التجربة الواسعة، والتخصص العميق في نفس الوقت.
قائدٌ يرعى وعيّ أمّةٍ رسالية، ليست أمّة بوذيين وأمّة مستوحشين، تحاسب على ضوء الرسالة، تراقب بدليل الرسالة، ودليلها في المراقبة هو رسالتها -وهي أعظم رسالة-، وهي الرسالة الإسلامية.
نعم، قائدٌ يرعى وعي أمّةٍ رسالية واسعة -يرعى وليس يشارك-، ترجع إليه قياداتٌ متخصصة كفوءة تحت إمرته، وتقبل أن تتلمذ على يديه، وهي معجبةٌ دائماً به، وتذوب فيه حبّاً واحتراماً، وتستنير كثيراً كثيراًبتعاليمه. هذا هو السيد.
تكريمُ السيد “أعلى الله مقامه” تكريمٌ للإيمان، لأنّه يعيش الإيمان في كلّ أعماقه، ولأنّه في حياته كلّها دروسٌ إيمانية، تكريمٌ للإيمان لأنّه لم يصنعه شيءٌ أكبر من الإيمان، ولم يذب في شيءٍ أكثر من ذوبانه أكثر من الإيمان، ولم يجاهد لشيءٍ أكثر من جهاده من أجل الإيمان، ولم يرَ عزّةً ولا رفعةً ولا شأناً إلا بما يكون له من حظٍّ من فضل الله من الإيمان.
نعم، تكريمه تكريمٌ للإيمان، وقول هذه الكلمة صادق. أيضاً في نفس الوقت، تكريمٌ للعلم، هو عالمٌ وعلميّ، وليس عالماً فقط، لا يكتفي بالظن فضلاً عن الشكّ، لا يأخذ بالشك، ويعتمد في أساس كلّ أعماله اليقين وما ينتهي إلى اليقين، أو ما ينتهي إليه.
يُقدِّر العلم تقديراً كبيراً، ويبذل للناس في سبيله ما يبذل، ويحرص على رفعة من حوله معرفةً وعلما، ويقود كلّما يستطيع أن يقوده إلى ساحات العلم ومراتب العلم الرفيعة، فإذا كرّمناه كرّمنا العلم، لأنه ينطق بالعلم، يحبُّ العلم، تقوم مدرسته كلّها على أساس العلم، جهاده عن علم، عداواته للعلم، صداقاته للعلم، تعامله الصعب، تعامله الخشن، تعامله الليّن، عواطفه، كلّ ذلك خاضعٌ لهدى العلم، فإذا بكى باكٍ السيد حسن نصر الله فهو يبكي الإيمان، ويبكي العلم، وإذا قدّره قدّر الإيمان وقدّر العلم، وإذا احتفينا باستشهاده فإنّنا نحتفي بالإيمان وبالعلم.
تكريمه تكريمٌ للإيمان والعلم والإخلاص والصدق والتضحية والفداء. التضحية محمودة في سبيل الحق، الفداء من أجل الله وعزة الإنسان المؤمن، الفداء من أجل إعمار الأرض بالهدى والصلاح، كلّ ذلك جميل وجليل وتطلبه الأنفس الرفيعة والقلوب الطاهرة والهمم العالية، والسيد الكريم “رحمه الله وأجزل ثوابه” يمثّل قمّة في مثل هذه الأمور، ويمثّل نبراساً كبيراً في مسار الهدى، ويمثّل صورةً جليّةً للقيم العالية الإسلامية، فتكريمه حيّاً، تكريمه ميّتاً، الاحتفاء بأربعينية شهادته، كلّ ذلك تكريمٌ لكلّ المعاني الجليلة الجميلة، وتكريم لما يرضي الله تبارك وتعالى ويهدي إلى الله ويوصل إليه.
تكريمه تكريمٌ لسمو الذات، وعلوّ الهمّة، وحصافة الرأي، تحبُّ في أخيك المؤمن، تحبُّ في الإنسان ذاته إذا سَمَت، ذاته إذا طَهُرَت، ذاته إذا تجلّت إنسانيتها، إذا كان عالي الهمّة، حصيف الرأي، تنجذب إليه انجذاباً، تحبّه حبّاً كبيراً، تتعشّق وتتلهف إلى الاقتراب منه، إلى نيل شيءٍ لما هو عليه من كمالات، فتكريم السيّد تكريمٌ لهذه الأمور، لأيّ ذاتٍ تسمو، لأيّ قلبٍ يطهر، لأيّ روحٍ تعمر بذكر الله، لأيّ دورٍ جدّي هادٍ مصلحٍ يخلق الوعي في الحياة، يوجد الوعي في الحياة، يوجد السعادة في الحياة، بسمةً لليتيم، راحةً للنفوس البريئة، عوناً للضعفاء.
السيّد عقله مرآةٌ للعقول الرشيدة، العقول المدركة، والقلوب الواعية، والهمم العالية، والأهداف الجليلة. وإحياء ذكراه ودوره، وذكر مآثره؛ إحياءٌ للثورة على الضلال والظلم والطاغوتية والاستكبار، ومن أجل الحقّ وتثبيته وانتصاره، والواجب علينا نحتفي بذكراه أيّ احتفاء، وأن نُجلّه أيّ إجلال، وأن ننشر ذكره بقدر ما يمكن، كلُّ ذلك من أجل أن تستمر ثورته، وتستمر انتصاراته، وتستمر إمداداته على طريق إنماء الأمة وعزّتها وكرامتها وحاكميتها.
في إحياء ذكراه “أعلى الله مقامه” مواجهة جادّة لكلّ قيادةٍ متمردة على الخالق العظيم، منساقةٍ لهوى استعباد الخلق.
هذا التكريم، هذا الاحتفاء وعلى قدر مستواه من الأمة، يعني حرباً على الضلال، على الكفر، على النفاق، على الطاغوتية، على الجهل، على التسافل.
إحياءُ ذكرى أمجاده، بطولاته، إحياءً يتناسب وقامته الشامخة، وجهاده السامق الصادق المخلص في سبيل الله، إنقاذٌ للدين الحقّ، والإنسانيّة الكريمة، والأمّة الوسط الهادية الرائدة، والمستضعفين المضطهدين.
وهذا التكريم يأتي تكريساً لأهمية موقعية القيادة الخطير ومسؤولية هذا الموقع العظمى، وقدره السامي، وما يجب عليه التلاحم بين القيادة وأمّتها، وما يكون الإخلاص المتبادل والتضحية والفداء من كلِّ طرفٍ للطرف الآخر.
القيادة تقدّم حياة الأمة على حياتها، وحياة الجماعة على حياتها، والقيادات العليا الكبرى، كالسيد القائد المفدّى، التضحية من أجل هذا الرجل هو تضحيةٌ من أجل الأمة، من أجل الدين، من أجل الكرامة، من أجل العزّة، من أجل استمرار النهضة، من أجل أن تستمر المقاومة أقوى وأقوى وأقوى.
إنّه بقدر ما كانت عليه الفرحة في العالم الاستكباري، عالم النفاق، عالم الكفر، عالم الطاغوتية، لفقد الشهيد العظيم المجاهد السيد حسن نصر الله، باعتبار أنّ شهادته فيها ضربةٌ موجعة للأمة، ضربة ضارّة بالإسلام، مُعطِّلة بعض الشيء، ضربة تُسجِّل انتصاراً للجاهلية في موقفٍ من المواقف، وهو انتصارٌ كبير حين يذهب ذلك القائد فتخسر الأمة مواصلته لدوره الجهادي المعجز، بقدر ما عليه فرحة عالم الاستكبار وعالم النفاق وعالم الجاهلية، يجب أن يتصاعد ويتصاعد ويتكثف ويتكثف جهد المحبين لله ولرسوله وللأمة ولهدى الإنسان، العمل من أجل سدّ هذه الثلمة الكبيرة، ومواصلة الجهود، والبذل الكثير، ومضاعفة الدفع بحركة المقاومة من أجل أن لا يظهر أثرٌ كبيرٌ ضارٌّ على مسيرة هذه الأمة في نهضتها المباركة، وفي طريقها إلى ظهور الإمام القائم “عجّل الله فرجه” وتحقيق النصر في ذلك اليوم العظيم، النصر الإيماني الذي لم تشهده الأرض بتلك السعة وذلك العمق، وأن ينتهي الأمر إلى إذعان الكفر إذعاناً أيضاً لم تشهده الأرض في يومٍ من الأيام.
اللهم احشر عبدك وبن عبديك السيد حسن نصر الله مع الشهداء والصالحين والأنبياء والمرسلين، وألحقنا بهم واخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.