في خضم عواصف النضال وتساقط أوراق الزمن، تظلّ ذكرى الأبطال توقد شعلة الحريّة الخالدة في قلوب الثائرين.
كلّ جرح نُفس على دروب الوغى، وكلّ قطرة دم سالت على تراب الوطن، ستبقى لحنًا يتردّد صداه في فجاج الثورات. وفي زمن يسوده الظلم، تمرّ علينا اليوم الذكرى المعطّرة بعبق دم الشهيد «الشيخ جمال العصفور» التي تدفعنا للوقوف بإجلال واحترام تجاه تلك الروح البطوليّة التي روت شجرة الحريّة بدم المروءة والشهادة.
الشيخ جمال العصفور، ذلك الصرح الذي وُلد في المحرق عام 1958، ونشأ وترعرع في أحضان قرية المعامير، كان يشعّ نورًا ومعرفة بين أهله وأصحابه. تميّز بأخلاقه الجليلة، ذكائه الحاد، وشجاعته التي لم تهتزّ حتى في أحلك الظروف، لم تغب ابتسامته البهيّة عن وجهه يومًا، حتى وهو يكابد عذاب القيد وسطوع المحنة. زرع الوعي والإرشاد في قلوب أتباعه وأضاء مشعل التوجيه الدينيّ في أرجاء وطنه. عام 1979 أسّس «جماعة أنصار الشهداء»، كما قاد تظاهرة حاشدة رفضًا لاعتقال علماء الوطن: والده الشيخ علي، والشيخ جاسم قمبر، والشيخ محمد علي العكري.
اعتقل في مارس/ آذار 1981، وذاق قسوة التعذيب الذي لا يُحتمل، وصدر عليه حكم ثقيل بالسجن سبعة أعوام.
مع غروب شمس يوم من أيّام شهر رمضان المبارك، دُسّ للشيخ الشهيد السمّ في طعام إفطار فأقعده ذلك، ودمّر دمه وأهلك حيويّته. خرج للحريّة جسدًا متهالكًا، لكنّ قلبه ما فتئ ينبض بالإيمان وحبّ الوطن. اشتد به المرض وتقاعست المؤسّسات الصحيّة عن تقديم يد العون، إلى أن استشهد في «مستشفى البحرين الدولي» بعد يومين من الإفراج عنه في 19 أغسطس/ آب 1981، وكأنّه أدرك حلمه بالشهادة.
شُيّع جسده الطاهر بين جموع لم تعرف للخوف سبيلًا، صدح فيها الهتاف بأعلى صوت ضدّ الظلم والطغيان.
وإذ نختم هذه الكلمات، لا تخبو جمرة الثورة في قلوبنا، ولا يزال الطريق طويلًا. لن يهدأ لنا بال حتى يستردّ هذا الوطن حقّه في تقرير مصيره، وحتى يُحاسَب القتلة ويُقتَص منهم. الشيخ جمال العصفور لم يسقط ليندثر، بل ليكون مشعلًا يضيء دروب الحريّة ويُحيي ضمائرنا. فلتستمرّ ثورة 14 فبراير في مواجهة نظام آل خليفة، حتى لو كانت المسالك جرداء ولو كان الهدف بعيد المنال. بدمائهم وصمودنا، ستُكتَب الفصول الأخيرة لأطول قصص القمع، وسترتفع رايات العدالة على هامات السلطان المتطاول. فثورة حتى النصر، ونضال حتى تحقيق الحريّة والانعتاق من ربقة التسلّط.