«إن لم تستحِ فافعل ما شئت»، هكذا يقول معتقلو الرأي في سجن جوّ المركزيّ عن إدارة السجن التي لم تكتفِ بالتراجع عن أقوالها ونسف وعودها السابقة بحلحلة ملفّ العشرات من المعزولين لأسباب أمنيّة حسب ادّعائها، بل عمدت أخيرًا وبكلّ صلافة، مستغلّة أحداث المنطقة المشتعلة والمتراكمة، وانشغال الرأي العام المحلّي والدوليّ بها، لضمّ أسماء أخرى إلى قائمة ضحايا العزل التعسفي والانتقامي، الأمر الذي رأى فيه المعتقلون دقًّا لناقوس الخطر الذي قد يتربّص أيضًا وفي أيّ وقت بأيّ منهم.
وهو ما ترجمه المعتقلون، وبعد استنفاذ كلّ وسائل التواصل الشفهي والمكتوب مع المسؤولين، وكافة الوسائل المتاحة الأخرى، إلى حراك احتجاجيّ سلميّ بدأ باعتصام عشرات الأسرى في ساحة التشمّس في مبنى 7 صبيحة الخميس 7 مارس/ آذار الحالي، وذلك رغم حرارة الجوّ، وظروف الصيام المضنية.
الحراك ورغم سلميّته ومحدوديّته سرعان ما استفزّ إدارة السجن التي ما لبثت أن تسارعت بضبّاطها وأفراد شرطتها بكثافة نحو موقع الاعتصام، قبل أن تعمد وفي صبيحة اليوم الثاني إلى الزجّ ببعض أفراد شرطتها ممن عرفوا بسيء صيتهم، من أمثال المدعو «حميد فرّاج» والمدعو «حسّان السوري»، وغيرهما، في محاولات بائسة لاستفزاز المعتقلين وجرّهم نحو العنف والتصادم منذ البداية لخلق ذريعة لاستخدام القوّة ضدّهم لاحقًا، غير أنّ وعي المعتصمين وحسن إدارتهم للموقف حالا دون ذلك، وخلافًا لحكمة الأسرى وعوضًا عن إيجاد السبل لإنهاء الأزمة تفنّنت إدارة الرائد «هشام الزيّاني» بالتفشي من المحتجّين، وابتكار الحيل والمكائد للإيقاع بهم، فعمدت مرّة إلى قطع المياه لعدّة ساعات متواصلة، ثمّ عمدت في المرّة الثانية إلى قطع التيّار الكهربائيّ المشغّل لأجهزة التلفاز والإلكترونيّات، في سعي بائس هو الآخر لإثارة سخط المعتقلين داخل الغرف واستفزاز المعتقلين خارجها.
ولأن المكر السيّئ لا يحيط إلا بأهله، فإنّ تعنّت إدارة السجن من جهة، وصخب الاحتجاجات وصيحات تكبير المحتجين اليوميّة والمدويّة من جهة أخرى، ما لبثت أن قرعت آذان قاطني المباني المجاورة لتستفزّهم للنهوض ونصرة المعتصمين في مبنى 7.
ففي مبنى 9 عمل المعتقلون على رفع صيحات التكبير المساندة للتحرّك، ولصق اللافتات المطالبة بحلّ ملفّ المعزولين، علاوة على إرجاء 40 أسيرًا لكلّ من وجبتي الفطور والسحور على مدى خمسة أيام متتالية.
مظاهر الاحتجاج والتضامن لم تغب هي الأخرى عن مبنى 10، حيث نظّم الأسرى هناك وقفة حاشدة في الممر الداخلي أمام الكاونتر، ورفعوا الشعارات والعبارات المناصرة لقضيّة الشباب المعزولين، مطالبين بسرعة حلّ هذا الملف الإنسانيّ.
من جانبهم، أصدر عشرات الأسرى في مبنى 5 بيانًا وُصف بشديد اللهجة من داخل السجن حمّلوا فيه من سمّوه رأس النظام الحاكم، وكلًّا من راشد بن عبد الله آل خليفة، ومدير السجن هشام الزياني، المسؤولية الكاملة لأي تداعيات خطرة ومتوقعة نتيجة إهمال هذا الملف، والتغاضي عن حلّه، وبصورة عاجلة.
بيانات الأسرى وأصوات المحتجين لم تكن محدودة، كما بدت في ظاهرها، بل إنّها تخطت مع مرور الأيام أسوار جوّ، وأوقعت على ما يبدو راشد بن عبد الله آل خليفة في حرج شديد على خلفية تصريح له تزامن مع زيارة وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن إلى البلاد، وصف فيه الأوضاع في البحرين بأنّها مستقرة، ليواجه حملة إعلاميّة مضادة قاسية من نشطاء ومواطنين يتهمونه فيها بتضليل الحقائق والكذب بلا خجل، محمّلين إيّاه المسؤولية عمّا يتعرض له أكثر من ألف معتقل رأي في سجون البحرين سيئة الصيت. حرج حاول الوزير تداركه صبيحة اليوم التالي الموافق لـ20 مارس آذار الحالي، عبر إرسال المدعوّ علي الدرازي من المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان كوسيط للتفاوض مع المعتقلين، والذين لخّصوا بدورهم مطالبهم الرئيسية في عدة نقاط كان أبرزها:
أ. وضع حدّ نهائي لملف عشرات المعزولين أمنيًّا، والذين مضى على بعضهم أشهر طويلة، ولا سيّما معتقل الرأي «محمد فخراوي – أبو كريم» الذي أمضى في عزله أكثر من ثلاث سنوات.
ب. صياغة آلية واضحة ودقيقة، وتحدّد تهمة أيّ معزول أمنيّ، ومدّة عزله.
ج. وضع ضوابط تمنع استغلال الضباط وأفراد الشرطة لصلاحياتهم في التشفي من المعتقلين المعزولين وممارسة الإجراءات الانتقاميّة غير القانونيّة بحقّهم.
وحدة ما يسمّى بالأمن الوقائيّ لم تغب هي الأخرى عن المشهد، حيث التقى المدعوّ أبو رعد في 19 مارس الجاري بعدد من ممثلي العنابر الذين تطرّقوا خلال الاجتماع إلى أوضاع عدد من المعزولين في مبنى 3 (18 سابقًا)، ثمّ أبدى أبو رعد استياءه من اتهامه بعدم الوفاء بوعوده السابقة في حلّ ملف المعزولين، حسب قوله، وأشار إلى أنّه التقى بـ«أبي كريم» أخيرًا، وهو ما تسنّى للمعتقلين التحقق من تفاصيله لاحقًا، حيث تأكّد مجيء عدد من الضبّاط من مختلف الرتب العسكرية لـ«أبي كريم» في مكان عزله وأخبروه أنّ الأسرى في حالة تمرّد حسب وصفهم بسببك، وردّ عليهم أبو كريم: إنّكم إذن يجب عليكم أن تعودوا إليهم هم وتسألونهم ماذا يريدون؟
جدير بالإشارة ما ذكره أبو رعد خلال الاجتماع أنّ 4 معتقلين نقلوا أخيرًا لمبنى 3 وهم في عزل أمنيّ، وهم محكومون ستة أشهر، الأمر الذي يعدّ من جهة اعترافًا صريحًا للمرة الأولى بوجود عزل أمنيّ ضمن سياسة إدارة السجن، وهو الأمر ذاته الذي دأبت إدارة السجن على نفيه والتنكر منه خلال السنوات الأخيرة، ومن جهة أخرى، تقدّمًا إيجابيًّا في طريق تثبيت آلية تحدّد تهمة المعزول ومدّة عزله، وليس آخر تطوّرات المشهد المستمر على مدى أكثر من 17 يومًا و 408 ساعة متواصلة، ما تأكّد أخيرًا من نقل معتقل الرأي أبي كريم فخراوي يوم الخميس 21 مارس إلى مبنى العزل 3 برفقة 2 من الأجانب من الجنسيّة الآسيوية كانا معه في مبنى العزل 4.