لا شكّ في أنَّ تاريخَ أيّ بلد يعدُّ علامة فارقة في صناعة حاضره واستشراف رُؤى مُستقبله، كما أنَّه يُمثّل إرثًا حضاريًّا تتكئ عليه الأمم في بناء مستقبل مُشرق لأبنائها، وما من أمّةٍ من الأمم إلّا وتحرص على توثيق تاريخها خلال مختلف الحِقَب التاريخيّة التي تمرّ بها صعودًا وهبوطًا، نجاحًا وإخفاقًا، ولتأكيد هذه الحقيقة يتحدّث «ابن خلدون» عن أهميّة التاريخ فيقول :«إذ هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيّام والدول، وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات (الحوادث) ومباديها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق».
وواحدة من أهمّ المحطّات التاريخيّة في العصر الحديث لأبناء البحرين، والتي كان لها الأثر الأكبر في تشكيل الواقع السياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ السيّئ الذي نعيشه اليوم هو تاريخ «26 أغسطس 1975م»، إذ لم يلبث شهر أغسطس أن يكون مناسبة سعيدة في ذكرى الاستقلال «14 أغسطس 1971م» حتى انقلب في غضون أربع سنواتٍ إلى بداية حقبة مظلمة على أبناء البحرين، امتّدت إلى يومنا هذا لتشكّل 48 عامًا من معاناة الأمرين تحت قانون أمن الدولة بمختلف أشكاله وتطوّراته.
إنّنا إذْ نستذكر «26 أغسطس 1975»، فإنّما نستذكر مناسبة تاريخيّة مهمّة مثّلت المدخل الخاطئ لسياسات النظام ومعالجاته الأمنيّة للمشاكل السياسيّة والاجتماعيّة التي تعانيها البلاد على امتداد العقود الخمسة الأخيرة، فما تعيشه البحرين في الوقت الراهن إنّما هو نتيجة طبيعيّة منطقيّة للانقلاب على التجربة البرلمانيّة الوليدة التي بدأت في العام 1973م.
كان من الممكن، فيما لو استمرّت التجربة البرلمانيّة الوليدة أن تكون بذرة على طريق انتقال البلد من حكم القبيلة إلى حكم الدولة الحديثة، ومن حكم الشيوخ إلى حكم المؤسّسة، ومن مبدأ الرعايا والعبيد إلى مبدأ المواطنة والكفاءة.
كلّ ذلك كان ممكنًا، لكنّ عقليّة الحكم الخليفي لم تخرج آنذاك من نظام القبيلة والشيخ والراعي ولا تزال فيه، وكانت مفردات مثل «المواطنة» و«الإرادة الشعبيّة» مفردات غريبة على قاموسها، وحشيّة في بيئتها، ولا تزال، لذلك انقلب نظام القبيلة على الإرادة الشعبيّة في «أغسطس 1975» بحلّ المجلس الوطنيّ تحت ذريعة عامة واهية هي عدم تعاون المجلس مع الحكومة، وذلك بعد رفض المجلس مشروعَ قانون أمن الدولة الذي أراد الحكم بموجبه أن يحكم البلاد بالنار والحديد، ولكن بموافقة نوّاب الشعب، أي بتغطية من هؤلاء النوّاب على إجراءاته القمعيّة، وسياساته الاستبداديّة، ولكنّ المجلس الوطنيّ رفض أن يبصم على قانون الحكومة القمعيّ.
والتاريخ كرّر نفسه في تجربة البرلمان الصوري في «2003» عندما طلب من المجلس الوطنيّ استصدار مجموعة من التوصيات هي من حيث المحتوى أشبه بقانون أمن الدولة، ولكن من جهة تشريعيّة ليمارس البطش المنفلت من عقاله تجاه الحراك الشعبيّ، وكرّر نفسه مرّة بعد المرّة في قانون الإرهاب «2006»، وانتهى أخيرًا بتتويج هذه الانقلابات المتكرّرة بالدخول في قانون الطوارىء «2011» رسميًّا، ولا يزال قانون الطوارىء ساريًا حتى اليوم على أرض الواقع وإن كان رُفع ظاهرًا.
نتيجة لهذه الانقلابات المتعدّدة ولجمود عقليّة الحكم الخليفيّ على حكم القبيلة المطلق لا تزال البحرين في نفق مظلم لا تعلم نهايته منذ 48 عامًا، وعليه، لا غرابة في أن نستذكر «26 أغسطس» بكثير من الاهتمام والعبرة، والتذكير بأنّ هذا اليوم كان مناسبة حزينة، جرى فيها انقضاض على أوّل تجربة ديمقراطيّة لشعب البحرين، وبدلًا من تطوير التجربة وترشيد العلاقة بين الحاكم والمحكوم، انقلب النظام الخليفيّ على التجربة، وألغى الدستور العقديّ الذي تمّ بموجبه التعاقد والتفاهم بين الشعب والقبيلة على نوع النظام الذي يجب أن يحكم البحرين.
ختامًا، نقول إنّه بالرغم من طول الطريق، وبُعد المسافة لا يزال شعب البحرين صامدًا رافعًا قبضاته إلى السماء، يشقّ طريقه نحو تقرير مصيره وتحقيق إرادته الشعبيّة.