ليس عبثًا القول إنّ المعتقلين السياسيّين في سجون النظام الخليفيّ هم وقود الثورة التي انطلقت في 14 فبراير 2011، ولا تزال مستمرّة.
ولطالما شكّل ملفّ المعتقلين الحجر الأساس في قضيّة شعب البحرين الذي يناضل منذ 12 عامًا من أجل حقوقه المسلوبة وفي مقدّمتها «حقّ تقرير المصير».
يقرب عدد المعتقلين السياسيّين بسبب الثورة والذين لا يزالون في سجون النظام الـ1500 معتقل، من بينهم الرموز القادة ونخب مثقّفة وناشطون اجتماعيّون وشبّان وفتية اقتلعوا من حياتهم ليزجّوا في سجون توصف بأنّها مقبرة الأحياء، يضاف إليهم 6 شبّان هم «معتقلو المعامير» الذين اعتقلوا قبل الثورة بنحو عامين على خلفيّة سياسيّة، وقد وصل عدد المعتقلين في عدّة سنوات إلى نحو 5000 معتقل، وهو ما عدّ من أكبر النسب لمعتقلي رأي في العالم مقارنة بعدد سكان البلاد.
ولا يخفى على المتابع لمجريات ثورة البحرين كيف اعتُقل معظم هؤلاء المعتقلين، وكيف حوكموا في محاكم فاقدة الشرعيّة، وبعضها كان عسكريًّا، على خلفيّة سياسيّة بحتة وبتهم كيديّة مفبركة، ووصلت أحكام بعضهم إلى الإعدام بالرصاص «وهو ما حصل للشهداء عباس السميع وسامي المشيمع وعلي السنكيس وعلي العرب أحمد الملالي»، والمؤبّد مع إسقاط الجنسيّة؛ باعترافات انتزعت تحت التعذيب في غرف التحقيق الإرهابيّ بتهم جاهزة وفق ما يقرّرها الجلّادون، كما يعمد النظام إلى سياسة الإخفاء القسريّ لتحقيق غاياته، وقد استشهد العديد من المعتقلين تحت التعذيب أو نتيجة الأمراض التي أصيبوا بها داخل السجن وتفاقمت بسبب سياسة حرمانهم العلاج.
لم يمنع السجن ولا وحشيّة السجّان معتقلي البحرين من التمسّك بمطالبهم، ولا سيّما مع تزايد التضييق عليهم في مختلف النواحي، وتصاعد حدّة الانتهاكات والقمع، فدخلوا في العام 2015 في إضراب جماعيّ عن الطعام احتجاجًا على جرائم التعذيب الجسديّ والنفسيّ التي يتعرّضون لها، قوبل بقمع شديد ووحشيّ من النظام لدفعهم إلى فكّ إضرابهم، آنذاك تمخّض هذا الحراك المحقّ عن فكرة تخصيص يوم تكريميّ لهم فكان «يوم الأسير البحرانيّ» في 24 يوليو/ تموز من كلّ عام.
مع انتشار جائحة كورونا في العالم، عمد النظام الخليفيّ إلى سياسيات تضييقيّة أكثر بحقّ المعتقلين، أكثرها لاإنسانيّة حرمانهم حقّهم في العلاج، ولا سيّما مع تفاقم الأمراض بسبب عدم أهليّة السجون لأدنى مقوّمات الحياة، وقد طال بعض هذا التضييق عوائلهم التي فقدت الكثير منها بعض أفرادها من دون أن يتمكّن المعتقلون من وداعهم.
كان نتيجة هذه الأوضاع المزرية واللاإنسانيّة وقوع عدد من الشهداء بعد أن استفحلت الأمراض بهم وتقطّعت سبل الشفاء منها، ومع غطاء دوليّ خاصّة بريطانيّ، وفي ظلّ تكتّم إعلاميّ إلا ما كان يصل من المعتقلين أنفسهم وعوائلهم وبعض المنظّمات والحقوقيّين ازدادت المعاناة والصعوبات في سجون النظام التي كان يتخلّلها إضراب بعض المعتقلين من وقت لآخر احتجاجًا على سوء المعاملة ومطالبةً بحقوقهم.
وبعد أن بلغ السيل الزبى أعلن مئات المعتقلين السياسيّين في سجن جوّ المركزي يوم 7 أغسطس/ آب 2023 دخولهم في إضراب مفتوح عن الطعام تحت شعار «لنا حقّ»، وذلك بسبب تعنّت إدارة السجن في رفض مطالبهم الإنسانيّة ومنعهم من حقوقهم المعترف بها دوليًّا.
وقالوا في بيان صدر عن اللجنة المنسّقة للإضراب إنّ من أسبابه احتجاجهم على القرارات الجائرة، مثل العزل الظالم لعدد من الأسرى وسلبهم الكثير من حقوقهم ومنها حريّة إحياء الشعائر الدينيّة، وأيضًا مدد العزل الطويلة لأسباب تافهة، إضافة إلى البرنامج اليوميّ الخانق الذي يُبقيهم ثلاثة وعشرين ساعة يوميًّا داخل الزنزانة فيما يصار إلى إخراجهم ساعة واحدة فقط في اليوم يقضون فيها جميع احتياجاتهم من اتصال ونشر الملابس والرياضة والتشمس، وقد تقصّر أحيانًا من دون عذر، وكذلك لا يسمح لهم بصلاة الجماعة في مصلى المبنى.
ومن بين مطالبهم أيضًا تعديل نظام الزيارات الظالم بحاجزه الزجاجيّ وتقليص وقتها وعددها، وبمنع الأخوال والأعمام وحتى أبناء الأخ والأخت من الزيارة، ومنحهم حقّهم في التعليم والرعاية الصحيّة.
لم يولِ النظام بداية أيّ اهتمام بهذا الإضراب، ظنًّا منه أنّ المعتقلين سيتعبون أو ينهارون، ولكن على الرغم من سقوط العشرات من حالات الإغماء يوميًّا فإنّ دائرة الإضراب آخذة بالاتساع، ولا سيّما مع الدعم العلمائي والشعبيّ الكبير له، فسماحة الفقيه القائد آية الله الشيخ عيسى قاسم «حفظه الله» دعا بكلّ وضوح إلى دعم المعتقلين ومساندتهم في إضرابهم، وكذلك الرموز القادة المعتقلين، والعلماء، وعوائل الشهداء والأسرى، حتى المعتقلين أنفسهم أصدروا البيانات باسم بلداتهم تأكيدًا منهم للتمسّك بحقوقهم التي لن يسترجعوها إلا بمواصلة الإضراب.
ومع هذه الهبّة الثوريّة الجديدة اتجّهت الأنظار الحقوقيّة والدوليّة ناحية سجن جوّ، فاضطرّ النظام إلى مفاوضة المعتقلين بأسلوب «الوعود الكاذبة»، حيث أرسل وفد منه للتفاوض معهم حول النقاط التي تناولت الحقوق المطالب بها والتي بسببها شرعوا بالإضراب، مقدّمًا لهم الوعود التي اعتادوها فقابلوها بالرفض والإصرار على حقوقهم التي كفلتها لهم كلّ الدساتير والأعراف الإنسانيّة، ومواصلة الإضراب حتى نيلها كاملة.
انعكست معركة المعتقلين بأمعائهم الخاوية على الشارع البحرانيّ الذي اشتعل غضبًا لهم وأخذ ينفّذ حراكًا تضامنيًّا متنوّعًا، فعادت التظاهرات بزخم أكبر، وكثرت نيران الغضب وقطع الشوارع في العديد من البلدات التي تزيّنت جدران غالبيّتها بالشعارات الثوريّة الداعمة لهذا الإضراب.
ولا تزال الحركة الأسيرة في البحرين تواصل إضرابها المفتوح عن الطعام، مسجّلة نصرًا مؤكّدًا في جولة من جولات الثورة على نظام آل خليفة الديكتاتوريّ والظالم.