يوم الثلاثاء١٠ مايو/ أيّار ٢٠٢٢م، «انفضّ» دورُ الانعقاد الرّابع من الفصل التّشريعيّ الخامس للبرلمان الصّوريّ في البحرين. مع هذه المحطّة الزّمنيّة؛ سيكون من المهمّ جرْد ما سيصدرُ عن النّظام على التّوالي، وصولًا إلى موعدِ مسرحيّة الانتخابات المقرّرة خلال هذا العام.
سيبدأ النّظامُ بتحريك عجلات حملته المعتادة لدفْع النّاس نحو المشاركة في فصْلٍ جديدٍ من هذه المسرحيّةِ الهزيلة والهزليّة. ونظرًا إلى الظّروف المستجدّة هذه المرّة؛ فإنّ النّظامَ سيُوجّه جهودًا خاصّة لإضفاءِ أجواءٍ توحي بأنّ ثمّة مرحلة جديدة تخوضها البلاد، استمرارًا في الاستهداف الممنهج الذي تتعرّض له بيئة المعارضة، بغرض استدراجها، بكلّ الطّرق، إلى فخّ التّعاطي مع «واقع عدم شرعيّته». فما الذي يخطّط له النّظام؟ وكيف يمكن مواجهته؟
لا يحتاج النّظامُ إلى بذل جهْدٍ كبير من أجل تركيب أجواءٍ مفبركة/ مزيّفة، ليُوحي من خلالها بأنّ ثمّة توجّهًا شعبيًّا جديدًا يتبلور في البلاد، وأنّ النّاس نفضوا كلّ تبعات المرحلةِ السّابقة، وأنّهم باتوا جاهزين للانخراط في الأوضاع الجديدة التي يهندسها وفق مصالحه الخاصّة؛ سوف يجهّز النّظام، منذ الآن، كذبةً جديدة بخصوص نسبة المشاركة، فإذا كانَ قد أوْصلَ هذه النّسبة في انتخابات ٢٠١٨م إلى ٦٧٪، ليؤكّد صعودها الكبير عن نسبة انتخابات ٢٠١٤م التي أوصلها إلى ٥٣٪، فإنّ المتوقّع أن يُوصلها هذه المرّة إلى ٧٠٪ أو أكثر. وهو لن يعدمَ حيلة في التّحريف والتّزييف لكي يفعل ذلك. على هذا النّحو ترتسمُ الصّورة الخلفيّة/ المتخيّلة في المخطّط المرسوم من النّظام، ومن هذه الصّورة سوف يعمدُ، من الآن، إلى توسيع انتشار هذه «الفبركات»، والتّمهيد لها من خلال خطوات شكليّة على الأرض، بغية كسْر بعض الحواجز النفسيّة، وترميم «صندوق» الذّرائع والتّبريرات الذي سيحتاج إليه مروّجو دعايات النظام، وتنويعه. هذا الصّندوقُ سيشمل سلسلةً جديدة من الإفراجات، وتوسّعًا في قوانين «تقييد حريّة الأسرى» خارج السجون، من غير أن يتجاوز ذلك. أي أنّ الصّندوق لن يحتوي مفاجآت غير متوقّعة أو وعودًا كبرى، بل سيظلّ النّظامُ مكتفيًا بهذه الحدود التي رسمها للوضْع «الجديد» الذي يتخيّله، وإلى وقت آخر يضطّر فيه إلى أمور أخرى.
ذلك يعني أنّ النّظام سيوسّع من أكاذيبه، وسيوغل أكثر في تعميم الصّور المزيّفة عن الواقع القائم، وفي الوقت نفسه لن يقدّمَ ما هو مجزٍ أو له مغزى على مستوى «إصلاح» الواقعين الحقوقيّ والسّياسيّ أو «تغييرهما». يُظهِرُ هذا النّظامَ في وضْع يجمعُ فيه بين أمرين: الإنكار، والإدبار؛ هو يُنكر الواقعَ المتدهور حوله، ويُفضّل الاستمرار في بناءٍ واقع متخيّل يناسب تكوينه الاستبداديّ، إذ ينكر عزلته الشّعبيّة، ويتفادى الإقرارَ بممانعة النّاس في العودة إلى الوراء. كما أنّه يُدبِر عن القيام بأيّ خطوة جديّة، صادقة، وكاملة، سواء في إطار التقدُّم نحو «الإصلاح» أو النّية في «التغيير»، فهو لا يهتمّ بتقديم «رسائل» إيجابيّة لأحد، ولا يتجاوب مع «رسائل» الآخرين، ويشيحُ بوجهه عن كلّ ذلك ولا يرى، ولا يُريَ الآخرين إلاّ ما يراه في صالح استمرار تفرّده المطلق بكلّ شيء. بسبب الإنكار والإدبار؛ فإنّ النّظامَ سيواصل بثّ صناديق الكذب، وسيُمعن في الاستخفاف بإرادة النّاس غير الخافتة في طلب الحريّة والعدالة الكاملة، ولن يُصغي لدعوات الإصلاح الحقيقيّ، لا من داعميه المقرّبين، ولا من الأصوات المخلصة من قادة النّاس.
على ماذا يعوّل النّظام؟ هو يظنّ أنه نجحَ في الإجهاز على النّموذج الذي قدّمته ثورة البحرين، والذي يقوم على ثلاثة عناصر أساسيّة:
١) الاحتجاج الثّوريّ في الميادين.
٢) الأنماط الشّعبيّة في التّعبير عن الصّمود والثّبات.
٣) الخطاب المدروس المبنيّ على التّخطيط.
وقد سلكت الثّورة في سنواتها الأولى هذا النّموذج بتوازٍ منتج، تأسّسَ على تفاهمات ضمنيّة وتوافقيّة بين قوى المعارضة المتعدّدة. في المقابل، كان المخطّط الحكوميّ يعملُ على تتابعيّة تدميريّة وتخريبيّة لهذه الثّلاثيّة، من خلال الانقضاض على ما تمثّله من مصادر قوّة تبثّ العنفوانَ في الشّوارع، وتغذّي النّشاط الميدانيّ الدؤوب للكوادر والناشطين في شتّى المحاور. تمّ تنفيذ هذا المخطّط عبر شنّ حملات الاعتقال، والتعقّب الموسّع للنشطاء، وتطويق التحرّك الاحتجاجيّ، و«اختطاف» معارضين أو تحييدهم على الأقلّ.
واليوم، ينتشي النّظامُ في صورةِ «المنتصر» الذي استطاعَ تنفيذ مخطّطه على أكمل وجه، وهو لا يشعرُ بالحاجة – بسبب انتصاره الوهميّ – إلى تقديم تنازلاتٍ للمعارضة وبيئتها المحرومة. وإذا كانت المرحلة الآن تتطلّبُ تغييرًا في سياساتِ الإدارة والهيمنة؛ فإنّ عدم استعمال القمع الظّاهر، واللّجوء إلى تخفيف أجواءِ القهر الماديّ؛ لا يعنيان أنّ النّظامَ استبدلَ ما كان فيه من موبقاتٍ ومساوئ وأدْران بأمورٍ أخرى تُلبسه خطابات مختلفة وسلوكيّات أقرب إلى النّاس! لن يحدثَ ذلك، لأنّ «الإنكارَ والإدبار» هو ما يحرّكه حتّى اليوم، ولا تغيير يُذكر في ذلك، وإلى أجل غير معلوم.
ستكون محاولة استدراج النّاس نحو المشاركة في «المسرحيّة» الهزليّة المرتقبة في صُلب مسعى الاستهداف الموجّه إلى بيئة المعارضة؛ لن يتوانى النّظام عن تجريبِ وسائل متنوّعة لإنزال اليأس، ومحاصرة البيئة المعارضة وخنقها، لإجبارها على منْحه صكّ الشّرعيّة. ولكن، لن يفلحَ النّظامُ في تحقيق أهدافه تلك، لأنّ النّاسَ أحْسَنوا، بين وقت وآخر، في التغلّبِ على الجراح، والانتصار على القمع، وهم نجحوا في أهمّ المعارك التي واجهوا فيها شتّى الحصارات. لكنّ ذلك لم يحصل من غير خسائر جانبيّة، بما في ذلك بعض الانكسارات التي تسرّبت إلى صفوف معارضين وناشطين، وتأثّرت بها ساحات الاحتجاج ومنابر الثّورة، ومثل هذه الخسائر، وإنْ كانت جانبيّة أو جزئيّة؛ يستفيد منها النّظامَ في مخطّط الاختراق والاستدراج، وهو ما ينبغي أن يؤخذ بالنّباهة والحُسبان.
من جانب قوى المعارضة، وأمام ملفّ الانتخابات، فإنّها معنيّة بإنجاز رؤيتها الواضحة، ومشروعها البديل، المصحوب ببرامج عمليّة تتناسبُ مع كلّ السّيناريوهات المحتملة. في الرّؤية، فإنّ المعارضة لا تتحمّل مسؤوليّة إعلان «مقاطعة» الانتخابات فحسب، بل صياغة مفهوم سياسيّ يجعل من المقاطعة موقفًا سياسيًّا متحرّكًا، أي أن تكون المقاطعة فعلًا وليس ردّ فعل، وهو ما يحتاج إلى تدارس جماعيّ يردفُ «إعلان المقاطعة» بإعلان سياسيّ مكمّل يعبّر عن المشروع البديل الذي تطرحه المعارضة في مقابل مشروع «الانتخابات الصّوريّة». وسوف يكون مجديًا ألاّ يقتصرُ ذلك على مجرّد «الإعلان» عبر الإعلام و«الخطابات» الوقتيّة؛ بل لا بدّ أن يكون مصحوبًا ببرامج تُعيد المعارضة إلى مستوى المناجزة، والتّدافع، وفضْح الأجواء الكاذبة التي سينشرها النّظام ابتهاجًا بالانتخابات. إنّ مثل هذا الحراك المعارض سيكون له أثره الإيجابيّ على المواطنين، وسيُعينهم على تفعيل طاقاتهم ومجهوداتهم وابتكاراتهم في إسقاط الانتخابات بضربة قاضية، وليس مقاطعتها فقط.