قال سماحة الفقيه القائد آية الله الشيخ عيسى قاسم إنّ ثورة الإمام الخمينيّ لم تقتصر على بُعدٍ واحد، ولم تواجه لونًا واحدًا من المشكلات، ولم تطلُب حلًّا جزئيًّا لمشكلة الأمّة، ولم تخُض معركةً واحدةً من المعارك الصغيرة أو الكبيرة، ولم تواجِه قوّةً مُنفردةً من القوى الطاغوتية في الأرض، ولم يقِف في طريقها البُعداء فحسب، بل واجهت التآمر الداخلي والخارجي،والمنافسة من الأقرباء، والعنف الشديد من البُعداء، والألوان المتعددة من المصادمات التي لا ترحم، ولكنّها عبَرَت كلّ هذا الطريق محروسةً من الله «عزَّ وجلّ» مِن الإنحراف مباركة الخُطى، محمودة العاقبة، وإنْ كثُرت الخسائر وعظُمت التضحيات.
وأضاف سماحته في الكلمة التي ألقاها أمام مؤتمر الحوزات العلمية النسائيّة في قمّ المقدسة بمناسبة الذكرى الحادية والثلاثين لرحيل الإمام الخمينيّ «قدّه» يوم الأربعاء 3 يونيو/ حزيران 2020م، أنّ الثورة لا تعظم إلاّ بعظمة مبدئها، وعظمة هدفها، وعظمة مفجرّها، والهدف الذي تعظُم به الثورة ويعظُم به القائد؛ هو الهدف الإلهيّ الذي تغنى به الأمّة، وتهتدي وترقى، وتتحقق به إنسانيّتها، وتدرك به الغاية، ويعطي لكلٍّ من الدنيا والآخرة حظَّها.
وشدّد على أنّ مِن حقّ الإمام الخمينيّ، ومن حاجة الأمّة والإنسانية وحُسن توفيقهما أنْ لا ينسوْا قامته الشامخة، وعلمه وعرفانه الغزير، وسيرته العبِقة، وثورته الميمونة المباركة، وما لدولته الكريمة من عزٍّ للأمّة، وحمايةٍ لدينها وكرامتها ووجودها، ومسؤولية بقاء لهيب هذه الثورة، وبقاء هدى هذه الدولة، ومن كيانها القويّ والأقوى ليست مسؤولية الإيرانيين فحسب، إنّما هي مسؤولية الأمّة كلّها، لأنَّ الثورة التي تجاوزت حدود إيران، وكان همُّها أوسع وأكبر من هَمِّ إيران فحسب، وكان هدفها الإصلاح وتصحيح المسار الإنساني، ليس إنسان إيران فقط، وإنَّما لكلّ مسلمٍ ولكلّ إنسان، فالخمينيّ وإنْ كان مِن إيران، ولكنّه كان كذلك لكلِّ الأمّة، ولكلِّ الإنسانية القويمة بأجمعها.
وهذا نصّ الكلمة:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا النبي الأكرم المصطفى محمد بن عبدالله وآله الطيبين الطاهرين.
السلام على القائمين والمشاركين في مركز إدارة الحوزات العلمية للأخوات الذين يقيمون هذا المؤتمر المهمّ بمناسبة ذكرى رحيل الإمام الخميني مفجّر الثورة الإسلامية في إيران، والقائد الأوّل لدولتها المباركة “رضوان الله عليه”.
كلُّ الوعاة مِن أبناء الأمم ممّن يعرفون لتاريخهم قيمةً عالية، ولعظمائهم تاريخهم المُشرِّف المنتج للرجال والوعي والبصيرة والبطولة والحيويّة والتقدّم في الأمة في حياتهم ومن بعد ما يرحلون عن هذه الحياة لا ينسون ذلك التاريخ ولا أولائك العظماء، ليبقى ماضيهم مُنتجاً الخير والقوّة والموقع الكبير لأممهم كما كان يومهم على قيد الحياة، لا ينسون إحياء مدرستهم وعظمتهم وجهادهم ودورهم الذي بعَثَ وأحيا وأعطى وأثرى وأنمى وأنقذ من ضلالٍ إلى هدى، ومن جهلٍ إلى علم، ومن خمولٍ إلى نشاط، ومن جمودٍ إلى حركة، وأعطى بعد ضعفٍ قوّة، ومن بعد ذُلٍّ عزّة، ومن بعد هوانٍ كرامة، وأثمر الاستقلال والحريّة وأنهى التبعيّة والذيليّة.
الوُعاة مِن أبناء الأمم يُدركون تماماً حاجة الأمّة ذات التاريخ المجيد، والرجال العظماء والقادة الأفذاذ إلى استحضار تاريخها في وجهه المشرق وعطاءه الكريم واستذكار قادة مجدها وأبطال الانقاذ فيها ليشاركوا عظماء وقادة حاضرها بما يَغنَوْن به من بصيرةٍ ويمتازون به من استقامة، ويتفردّون به وجوه القدرة، ويسبقون فيه من أنواع العطاء والنافع من الدروس والتجارب، والتقدُّم بأمّتهم وتحقيق السَبق لها.
نعم.. إنَّ عظماء الأمم مدرسةٌ معطاءٌ لا تفقد قيمتها بمضيّ الزمن، ولا ينتهي مددها لحركة التصحيح والثورة والتقدّم للحاضر، ويستضيء بها الجيل بعد الجيل، والقرن بعد القرن.
نعم.. وإنَّ إحياء ذكراهم وتعاليمهم ومواقفهم الكبيرة العظيمة يبقى حاجة الأمم على استمرار وجودها.
وكلّما عَظُمَ الرجل لزِمَ امتداد حياته المعنوية في عطاءاتها الثرَّة للأمة على يد الأمّة نفسها باحتضان تلك العطاءات، وإبقاء شخصيته المضيئة مُشعّةً في حياتها عن طريق إحياء ذكراه والتفاعل معه كما لو كان حيَّاً يقود الحياة، ويتخطى بها الصعاب التي تعترض تقدّمها، ويدفع بها إلى الأمام، ويدفع النفوس إلى القوّة والثورة، ويُفجِّر بركان الغضب في وجه الباطل، وينتصر للحقّ، ويستنهض الأمم، ويجمع على الطريق الصحيح.
ولكلّ رجلٍ عظيم بالعظمة الحقيقية أفقٌ فيه سَعَة، وفيه رفعة، وله امتداد، ومع ذلك تتفاوت آفاق العظماء وقادة الإصلاح ومنقذي الأمم.
وكلّ رجلٍ يفرض امتداده وسعته ومدى ما يُعطيه من هدى وقوّةٍ وصلاحٍ بعد رحيله، واقعُ ما كان عليه امتداد أفق عظمته في حياته وقوّته وهداه وصدقه وقيمة مطروحه ومحتوى حركته ومحور جهاده وسعة رؤيته ودائرة اهتمامه.
فهناك مثلاً مصلحٌ لقريته، وآخر لعموم قِطره، وثالثٌ لأهل قوميّته، ورابعٌ لأمّته، ومصلحٌ آخر لا يرضى إلاّ بأنْ يجهَد ويُجاهد من أجل إحياء الإنسانية كلّها إحياءً شاملاً ومقيماً، ولا يقف به الزمن ولا يأتي ما ينسخ ثورته وإصلاحه من إصلاح، وإنْ كانت الثورة تتكامل، وإنْ كان الإصلاح يتزايد.
وفي الناس عظيمٌ في بُعده الفكري، وآخر في بُعده الروحي والعرفاني، وثالثٌ في بُعده السياسي، وهكذا، ومنهم وذلك هو النادر النادر، مَن يجمع بين العظمة في أبعاده الإنسانية الكريمة التي ليس لها من عطاءٍ إلاّ عطاء الخير والهدى والبركة والصلاح.
وكلّما كان الرجل أجمَع للعظمة الحقيقية بأكثر ممّا يملك من أبعاد شخصيّته في أبعادٍ هي الكثير والأكثر من أبعاد شخصيّته كانت حاجة الأمّة والإنسانية إليه أعظم، وكانت الخسارة في نسيانه أكبر، والبركات في الإنشداد إليه وإحياء ذكراه واستحضار عطاء حياته وأنوار هداياته أكثر وأنفع، والحاجة إلى إبقاء لسانه مُلعلعاً في الناس، ودروسه قائمة، وسيرته ماثلةً أمامهم، كما لو كان يعيش فيهم ألحَّ وأشدَّ، ومراعاتها أدلَّ على الوعي والرُشد وضمان التقدُّم.
ومِن مقياس عظمة الرجال وأهمية دورهم ونجاحه وغناه، بحجم الحكمة والصبر والصمود والحنَكة وعلوّ الهمّة، ومضَاء العزيمة، والثبات على الطريق الذي كانوا يتمتعون به، هو أنْ تجتمع القوى المُضادّة الكثيرة في شخصيتهم، وتتنوّع التحديّات والجبهات المُناهضة لإرادتهم، وأنْ يمتدّ مدى ما عليه الأعداء من شديد القوّة، وعظيم العُدّة، وأنْ يعظُم العتاد بيد مَن يُصرّون على إفشال حركتهم، ثمّ المغالبة من هذه الشخصيات العظيمة العملاقه لكلّ هذا.
الشخصية العملاقة، ما يُبرهن على عظمتها بدرجةٍ عليا، وعلى سموقها بدرجةٍ أشدّ، أنْ تُقاوم كلّ هذه المُضادَّات، وتُناطح كلّ الصعاب، وأنْ تُوفّق بالنجاح في إفشال كلّ المؤامرات، وإسقاط كلّ المحاولات المناهضة لمشروعها الكريم العظيم، وأنْ تُفشل كلّ الحِيَل الشيطانية والمكائد الإبليسية، وتعبر الطريق الوعر إلى الهدف الكبير وتُحقق النجاح الباهر في أداء مهمّتها.
الطريق المفروش بالرياحين غير الطريق المليء بالأشواك، فحين يكثُر الشوك على الطريق، وحين تشتدّ التحديات، وتثبت شخصية المصلح والثائر أمامها لتهزمها فذلك أمرٌ يدلُّ على عظمةٍ مُتفوّقة.
وهذا المقياس مقياس أنْ تجتمع الصِعاب الضِخام والآلام الشديدة على الطريق، فلا تعيق المصلح والثائر لشديد عزمه ومُضيِّ إرادته، هذا المقياس لم يُمتحن به على مدى التاريخ إلاّ قليلٌ من الثورات وقادة تلك الثورات.
وثورة الإمام الخميني “أعلى الله مقامه” لم تقتصر على بُعدٍ واحد، ولم تواجه لوناً واحداً من المشكلات، ولم تطلُب حلاًّ جزئياً لمشكلة الأمّة، ولم تخُض معركةً واحدةً من المعارك الصغيرة أو الكبيرة، ولم تواجِه قوّةً مُنفردةً من القوى الطاغوتية في الأرض، ولم يقِف في طريقها البُعداء فحسب، وقد واجهت التآمر الداخلي والخارجي، والمنافسة من الأقرباء، والعنف الشديد من البُعداء، والألوان المتعددة من المصادمات التي لا ترحم، ولكنها عبَرَت كلّ هذا الطريق محروسةً من الله عزَّ وجلّ مِن الإنحراف مباركة الخُطى، محمودة العاقبة، وإنْ كثُرت الخسائر وعظُمت التضحيات، فإذن هي الثورة التي تمتاز بهذه الأمور ممّا يُعطيها صبغةً خاصّة، وعظمةً كبرى من بين الثورات الأخرى غير ثورات المعصومين “عليهم السلام”.
القضية هنا أنَّ الشدّة بالغة من جهة، والمخاض عسير -هذا من جهة-، ومن جهةٍ أخرى أنَّ الأمل قد تحقق، وأنَّ الغاية قد بلَغ إليها طالبها، والأهمّ من النصر أنّه كان نصر هدف، وسلامة غاية، وأنَّ الزوابع لم تمل بالسفينة الصامدة عن الخطّ، ولم تنحرف عن الوجهة، وبقي الهدف من السير كلّه والجهاد الطويل، والحركة في أبعادها المختلفة، والرحلة الشاقة، هو الله تبارك وتعالى، ورضاه وعزُّ الدين وعزُّ المؤمنين، وأنْ لا شيء من المساومات والضغوطات الهائلة نال من قلب القائد العظيم أنْ ينحرف به عن السير إلى ربّه، وبالثورة عن خطّها الطالب لرضاه عزَّ وجلّ.
ولا تعظُم الثورة إلاّ بعظمة مبدئها، وعظمة هدفها، وعظمة مفجرّها، ومنهجها، وكلّ ذلك ولا شيء منه لا يكون إلاّ في ثورةٍ لله خالصةً له، وعلى هدى دينه ومنهج شريعته، ومن أجل الوصول إليه، وعلى يد رجلٍ من صنع هذا الدين، ورؤيةٍ من رؤيته، وهدفه لا يشذّ عن هدفه.
الثورات على غير هذا الخطّ لئنْ يكن فيها شيءٌ من حقّ فإنَّ فيها لكثيراً باطل، ولئن يكن فيها شيءٌ من استقامة فإنَّ فيها لكثيراً من زيْغ، ولئن أعطت قليلاً من نفع فإنّه لا يساوي شيئاً ممّا تؤدي إليه من ضرَر وتُعقبه من ظلمٍ وبغيٍ وضلال، ولا تُخرج من ظُلمةٍ إلاّ وأوقعَت في ظلمات.
ومِن مقياس العظمة لرجل الثورة أيّ ثورة، نوعُ وحجمُ ما خَلَّف، فإنْ لم يُخلِّف إلاّ الكثير من صفراءها وبيضائها، وذَهبها وفضّتها لنفسه وأهله، فثورته أنانيةٌ ومن أجل سرقة الأمّة رعايةٌ منه لجاهه وجاه أهله، ولئن كان ما ورّثه من كثير ذلك -أي من ذهبٍ وفضّة- للأمّة فثورته صغيرة، ونظرتها قصيرة، وهدفها ليس بذلك البعيد، ولا بالذي يُحقق هدف الحياة، ولا بالذي يُحيي الأمّة ويُسعد الإنسان.
الهدف الذي تعظُم به الثورة ويعظُم به القائد؛ هو الهدف الإلهي الذي تغنى به الأمّة، وتهتدي وترقى، وتتحقق به إنسانيتها، وتدرك به الغاية، ويعطي لكلٍّ من الدنيا والآخرة حظَّها.
ومن مقياس عظمة الرجال وأهمية دورهم ونجاحه عدد من تخرّج على يده من عظماء في الأمّة، في حياتهم، وعظماء من تربيتهم وهدى ثورتهم، أو جدَّوا من بعدما غادروا الحياة، أي لم يكونوا قد سمعوا في حياة العظيم وإنّما جاء صنعهم من بعد حياته ومن أثَر وبركة مدرسته.
نعم.. هو مقياسٌ لعظمة الرجل، ومن هذا المقياس مدى الصلاح في الناس والإصلاح في الأرض الذي أعقبته الثورة، والتي خلقت الأمّة التي تقوم باستمرارٍ على الإصلاح والنهضة والتقدُّم.
وللمخاطَبين والمُخاطَبات، وللدنيا كلّها أن تقيس السيد الإمام الخميني “رضي الله عنه” وثورته، ليجدها الجميع ممّن ينصفون أنّها من جنس ثورات الأنبياء والمرسلين، لاحقةٌ بركبها، هادفةٌ هدفها نفسه، مُعطيةٌ نتائج من نوع ما لها من نتائج وأوضاعاً من نوع ما تُعقبه من أوضاع، وأنّها الثورة التي تفوق كلّ الثورات ممّا عدا ثورات الأنبياء والأئمة “عليهم الصلاة والسلام”.
وليجدوا مُفجِّرَها ذلك الرجل الإلهي العظيم الذي سيبقى بكلّ حقٍّ وجدارة قدوةً للأمّة وللإنسانية العادلة المهتدية في كلّ مكانٍ وعلى طول الزمن المديد، ليست ثورةً للزمن المحدود، وإنّما هي ثورةٌ للزمن الممتد، ولن يأتي فيما يُظَنّ ما هو أكبر منها إلاّ على يد الإمام المُنقذ الأكبر قائم آل محمد “صلوات الله وسلامه عليهم أجميعن وعجَّل الله فرجه”.
ومِن حقّ هذا الإنسان العظيم، ومن حاجة الأمّة والإنسانية وحُسن توفيقهما أنْ لا ينسوْ قامته الشامخة، وعلمه وعرفانه الغزير، وسيرته العبِقة، وثورته الميمونة المباركة، وما لدولته الكريمة من عزٍّ للأمّة، وحمايةٍ لدينها وكرامتها ووجودها، ومسؤولية بقاء لهيب هذه الثورة، وبقاء هدى هذه الدولة، ومن كيانها القويّ والأقوى ليست مسؤولية الإيرانيين فحسب، إنّما هي مسؤولية الأمّة كلّها، لأنَّ الثورة التي تجاوزت حدود إيران، وكان همُّها أوسع وأكبر من هَمِّ إيران فحسب، وكان هدفها الإصلاح وتصحيح المسار الإنساني، ليس إنسان إيران فقط، وإنَّما لكلّ مسلمٍ ولكلّ إنسان.
إنَّ الرَجُل كان مِن إيران، ولكنّه كان كذلك لكلِّ الأمّة، ولكلِّ الإنسانية القويمة بأجمعها، “رضوان الله عليه وعلى أمثاله من صُلحاء الأمّة وهُداتها والسائرين على طريق الإسلام”.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.