شدّد الفقيه القائد في خطاب الذكرى التاسعة للثورة الذي ألقاه يوم الخميس 13 فبراير/ شباط 2020 في قم المقدّسة على أن يزداد عزم المعارضة على مواصلة الانتفاضة كما كان منذ الابتداء، ولكن بدرجة أشدّ عمّا كان عليه، حتى تتحقّق كامل المطالب العادلة، ويُعترَف للشعب بموقعه الطبيعيّ وبإدارة بلده.
ورأى سماحته أنّ أسلوب الانتفاضتين في التسعينيات وفبراير 2011 هو الأسلوب السلميّ، وأنّ على ذلك الاستمرار، وأكد أنّ على المعارضة أن ترى نفسها مسؤولة عن الاحتفاظ بالهدف الذي انطلقت من أجله الانتفاضتان، وهو هدف كبير.
وأوضح آية الله قاسم أنّ المعارضة اتخذت شعار «على طريق النصر»، وطريق النصر محفوف بالصعاب، وقد يطول ويطول، ولا يسلكه إلا الصابرون، ممّن لهم عزم شديد من عزم الأنبياء والأولياء، ولا شيء كالإيمان فيما ينتجه من ملكة الصبر والعزم الشديد.
وعدّ صفقة القرن خطوة خيانيّة كبرى من حكومات عربية شاركت فيها وحضرت الإعلان عنها، وجريمة اغتيال الشهيدين القائدين الحاج قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس من الاحتلال الأمريكيّ هو امتحان لإرادة الأمّة.
وهذا نصّ الخطاب:
نص كلمة سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم عشيّة ذكرى الثورة البحرينية المجيدة في مدرسة الإمام الخميني (قده) بمدينة قم المقدسة – 13 فبراير 2020م:
السلام عليكم أيها الملأ المؤمن الكريم
السلام على شعب البحرين الأبيّ
السلام على أمّتنا المجيدة
ذكرى الرابع عشر من فبراير 2011 وقضايا من قضايا وطننا، قضايا وطنٍ جزء من الأمة، وقضايا الأمة الكبرى الخالدة، الأمة الإسلامية.
الكلمة من مقدمة وست وقفات:
في المقدمة موجز ما بين السادس عشر من ديسمبر 1973 حتى الآن:
تم التصديق على دستور البلاد في 6 ديسمبر 1973، وكان من وضع مجلسٍ تأسيسي، وهو أول مجلسٍ تأسيسي في البحرين.
أعقب ذلك مجلسٌ وطني لتشريع القوانين والمراقبة والاستجواب والوظائف الأخرى المختصة به، وكانت أولى جلساته في 16 ديسمبر 1973م ودورته المقررة 4 سنوات والتي لم تكتمل له.
حلّ المجلس بارادة أميرية منفردة أثناء عطلته الصيفية العام 1975م بعدما فُضّ دور الانعقاد الثاني من دورته الأولى، وصدر بذلك مرسوم بقانون برقم 14 لسنة 1975م.
كان سبب الحلّ رفضٌ في الجانب الشعبي للمجلس لقانون أمن الدولة الجائر التي تقدمت به السلطة التنفيذية، ولم تسمح ظروف الخلاف على ذلك القانون للسلطة التنفيذية حتى بأن تسمح بانعقاد الجلسة المخصصة للتصويت عليه، كان الرفض قوياً جداً وحدّياً، حيث علمت السلطة التنفيذية باسقاطه، فكان أحسن لها أن لا تنعقد الجلسة فيتم التصويت على الإسقاط والرفض.
صدر في يوم الحل نفسه أمرٌ أميري رقم 4 بتأجيل انتخاب مجلس وطني بديل يقوم مقامه إلى أن يصدر بذلك قانونٌ جديد، ولم يكن هناك مجالٌ لإصدار قانون جديد بعد حل المجلس الوطني، قانون ينبع من ارادة الشعب، وإنما كانت الفرصة المتاحة هي أن يصدر مرسوم أميري بقانون انتخاب.
ويعني ذلك إلغاء التجربة الديمقراطية وأي تمثيل شعبي إلى أجل غير مسمى وارجاع المسألة في تركيبة المجلس وقيودها وقيود وظائفه إلى طائلة المراسيم الأميرية وحدها، فحصرت الإرادة التشريعية في ارادة الأمير يومذاك، جاءت على أثر ذلك الانفاضة الشعبية الأولى في 17 من ديسمبر 1994م.
أنتجت الانتفاضة التصديق على ميثاق العمل الوطني بتاريخ 14 فبراير 2001م.
انطلقت الانتفاضة الثانية بتاريخ 14 فبراير 2011م.
صدر قانون انتخابي على شكل مرسوم بقانون برقم 14 لتنظيم الحقوق بشأن مباشرة الحقوق السياسية بتاريخ 3 يوليو 2002م، ثم صدر مرسوم بقانون 15 لسنة 2002 بشأن مجلس الشورى المعين ومجلس النواب جهد ذلك المرسوم على أن يُجيّر العملية النيابية ويُحكم القبضة على ما تنتجه من قوانين ومواقف لصالح السلطة التنفيذية والارادة المنفردة التي أصدرت القانون بمرسوم نفسها، ويرجع كلها إلى الإرادة الملكية.
استنزفت الانتفاضتنان من نفوس الشعب وحرماته الدينية والسياسية والإنسانية الكريمة وكلّ حقوقه المحترمة بما طال كل شيء من أرزاقه وغيرها ما ظلّ متصاعداً حتى اليوم، والتفصيل يُرجع فيه للمصادر المعنيّة.
فصار أنْ لابد من وراء هذه الخلفيّة أن يزداد عزم المعارضة على مواصلة الانتفاضة كما كان العزم منذ الإبتداء ولكن بدرجةٍ أشدّ عمّا كان عليه العزم، وذلك حتى يتحقق كامل المطالب العادلة ويُعترف للشعب بموقعه الطبيعي، وباختصارٍ في ادارة بلده.
والحديث ينتقل الآن إلى وقفات الانتفاضة الثانية وبعض قضايا الأمة الكبرى الحاضرة.
الوقفة الأولى: مع الانتفاضة الثانية – 14 فبراير 2011:
للانتفاضتين -أعني الأولى والثانية- دافع واحد، سلب الحق السياسي للشعب وما ترتب على ذلك، والمترتب عليه سلب كل الحقوق.
أسلوب الانتفاضتين هو كذلك واحد، وهو أسلوب السلم وعلى ذلك الإستمرار، وعنف السلطة التنفيذية يدفع لغير ذلك، وكذلك السياسة الطائفية فيما تستهدفه من تمزيق المجتمع واحداث الصراع بين مكوناته. الهدف إزالة المقتضي -وهو الدافع المذكور- لينتهي هذا الدافع، واسترداد الحقوق واستقلال الوطن وتجنيبه الحروب وتركيز الأخوّة الوطنية وأن يعمّ الخير والعدل للجميع والاعتراف العملي بكون البحرين جزءً حقيقياً لا صورياً فعلاً من أمّتها الإسلامية والعربية ورفض العدوانية وكلّ الظلم في كل العالم، والمسلم معنيٌ بازالة الظلم ولو في أمريكا، ولو في الصين ولو في روسيا ولو في أي مكان، وكلمة النصح والهدي إلى الحق والتذكير بالله وبقيمة الإنسان هو الطريق الأوّل لإصلاح الأرض ورفع ما يغمرها من ظلم.
والمعارضة اليوم يلزم أن ترى نفسها مسؤولةٌ عن الاحتفاظ بالهدف الذي انطلقت من أجله الانتفاضتان معاً، الهدف يبقى هو الهدف، وهو هدفٌ كبير، والإصلاح فيه هو الإصلاح الذي أراده الله سبحانه وتعالى على هذه الأرض من خلال كتبه ورسالاته ورسله وأنبياءه. حينما نقول الإصلاح، فنحن نعني الإصلاح الذي لا يُبقي ظلماً ولا جاهليّة ولا فساداً في الأرض، والشعار دائماً هو شعار الأنبياء والمرسلين “الإصلاح”.
المعارضة اليوم مسؤولةٌ عن مضاعفة جهودها السلمية على طريق الهدف نفسه، أن تكبُر وتتجاوز ما وصلت إليه الأحداث، الأحداث كبُرت وضخمت وضخمت معها المسؤوليات وتحتاج أن تنمو المعارضة وأن تكبُر وتشتدّ ويشتدّ منها العزم والتصميم ولا تلين.
أن توافق المعارضة الموافقة الدقيقة بين أمرين، الظروف في مجموعها، وما يقتضيه مجموع الظروف، وما لها من ملابسات ومتوافقات ومتعارضات وما تشير إليه المقارنات بينها، هذا الأمر الأول، والأمر الثاني الذي يجب التوفيق بين الأمر الأول وبينه، ما ينبغي أن تؤدي إليه هذه الظروف من تحرّكٍ أمثل في إطار الأسلوب السلمي.
أن تتغلّب المعارضة على أسباب الشقاق والعداء وأن يُشرّق بعضها ويغرّب بعض، وإنْ اختلف الرأي في بعض الأمور، وأن تتقي الله -أقصد المعارضة- في الشعب ومصلحته في التخليّ عن النزاع.
الوقفة الثانية: شعار الانتفاضة لهذا العام 2020م، وهو (على طريق النصر).
أولاً: النصر المطلوب، والهدف الذي تنتهي إليه كل الأهداف التفصيلية المنبثقة منه، هو انتصارٌ يبدأ من امتلاك النفس والإنتصار عليها، ويُحقّق الانتصار للقيم العليا الفطرية والدينية، ويحق الحقّ ويُبطل الباطل في ساحة الحياة بكل ما لساحة الحياة من سعة وامتداد، وكل ما لساحة الحياة من حيثيات وجنبات وأبعاد.
ثانياً: نصرٌ للعقل على الجهل، للإصلاح على الفساد والإفساد، وللعدل على الظلم، وللحرية الحقيقية النظيفة -وأنا أفرق بين حريتين، حرية نظيفة وحرية قذرة ساقطة هي حرية الشهوات والانفلات الشهوي-، على الاستعداد والاجتماع على الفرقة وأخوّة المجتمع على التمزق.
إنّه النصر الذي يوّفر الكرامة للمجتمع، النصر البعيد عن الثارات الجاهلية، النصر الذي يزيد من الأخوّة الإسلامية والإيمانية المستهدفة اليوم كل الإستهداف في وطننا وفي كلّ جنبةٍ من جنبات الوطن الكبير لهذه الأمة.
وطريق النصر محفوفٌ بالصعاب، وقد يطول ويطول، ولا يسلكه إلا الصابرون ممّن لهم عزمٌ شديدٌ من عزم الأنبياء والأولياء، ولا شيء كالإيمان فيما ينتجه من ملكة الصبر والعزم الشديد.
طبيعة الانتفاضة في البحرين ما كانت لتسمح شرعاً ولا قانوناً لولا العنف الظالم الذي تُواجه به من قبل السلطة التنفيذية أن يسقط ولو شهيد واحد، ذلك لسلميتها وعقلانيتها وحكمتها ونداءاتها المستمرة بالرجوع إلى العقل والدين والضمير الإنساني ومقررات القانون والدساتير العالمية.
ولكن ما حكم الشهادة والحال هو هذا الحال؟ الآن سقط شهداء كثيرون، ويسقط شهداء، ما هو الحكم؟
من التزم بالهدف الشرعي الذي يرضاه الله عزّ وجلّ وكان أصل تحركه شرعياً وتصرفه موافق للشريعة فهو مظلومٌ مأجور، هذه لغة الدين الواضحة لا غيرها.
ثالثاً: ويجب أن نعلم جميعاً، بأنّ الحركات الإصلاحية والتغييرية بصورتها العامة ودرجاتها المتفاوتة، من حركات الأنبياء والأوصياء ومن دونهم من الصالحين، وهي دائماً من أجل الحق وصالح الإنسانية والفلاح والصلاح، وكذلك هي حركات الطغاة والجبابرة والمفسدين، وراءها –كل هذه الحركات- تترتب عليها متاعب وتوترات وتضحيات وخسائر في النفوس والأموال والبُنى التحتية، وهذا أمرٌ يفرضه الظالم على المظلوم، وهو أمرٌ من جريمة الظالمين في الأرض.
لأن الأنبياء إنْ صبروا على الفاسد شقي الإنسان كلّ الإنسان، وسقطت قيمة الحياة، وضاع هدفها، فكان لابدّ أن يُرسل الله عزّ وجلّ رُسلاً ويُنزل كتباً ويُكلِّف بالجهاد، والجهاد موضوعه الكفر والظلم والفساد.
ويبقى فارق الهدف -قُلْنا بأن حركات الأنبياء تسبب خسائر أرضية بشرية كثيرة، وتُحدث تمزّقاً في المجتمع، وكذلك هي حركات الطواغيت والجبابرة، ولكن هل من فارق بين نوعين من الحركات؟ بلى- وهو كفارق ما بين السماء والأرض، فارقٌ في الهدف، في الأخلاقية، في الأسلوب، في الحكمة، فارق في النتائج.
اسلوب شريف يقابله اسلوب وضيع، اسلوب انساني يقابله اسلوب حيواني، طريق صاعد يقابله طريق هابط، هدف عملاق إلهي يوصل حركة الإنسان بارادة الله ويرفع الجباه بارتفاع ما وراءها من نفوس وضمائر وقلوب وروح في اتجاه الله تبارك وتعالى، ترتفع النفس فيرتفع الجبين، ارتفاع عزّة رحمانية لا شيطانية.
فارق كبير في النتائج، إعمارٌ وإصلاح، إقامة حقٍّ وسيادة عدل، هدمٌ لكل بناءٍ فاسد، إقامة وإشادة لكلّ بناءٍ مجيد، حاكمية للحق على الباطل، سيادةٌ للإنسان الإنسان على الإنسان الحيوان، سيادة لعملاقة الروح على الأقزام القذرة روحاً، هذه هي نتائج حركات الأنبياء والأوصياء والصالحين.
ما النتائج المقابلة لحركات الإستكبار والطاغوتية والكفر في الأرض؟
باختصار ما يقابل ذلك كلّه، ضع ضدّ كل شيء مما ذكر في قائمة نتائج حركات الباطل.
حركات الأنبياء -كما سبق- كلّفت الكثير الكثير من دماء وأموال وبنية اجتماعية، ولكن لم يكن ذلك يعارض شيئاً من النتائج الضخمة الكبرى التي تنحفظ بها إنسانية الإنسان وكرامته ويسعد بها في الدنيا والآخرة.
ويبقى هذا هو الطريق، وهو من فرض الظالمين على أهل الأرض.
وأما الطريق إلى هذا النصر -الذي تم رفعه شعاراً-، ما هذا الطريق إلى هذا النصر؟
إنّه من جنس ذلك النصر، لا يحيد عن الحق، ولا يتوّسل بالباطل، ولا يميل عن خط القيم، ولا يخالف شريعة الله، ولا يتنكّب عن طريق الهداية والحق والصلاح، طريقٌ يقوم دليلاً في نفسه على نظافة الهدف ونظافة الحركة، وسلامة النيّة وقصد البناء الصحيح، وتقويم المعوّج من الأمور، وأنّ الحركة حركةٌ لله وللإنسان وليست حركة لمواجهة الله عزّ وجلّ ولا للإضرار والإستعداء للإنسان.
رابعاً: ولا يصدق ذلك الهدف الرفيع الذي تحدّثتُ عنه، ولا ذلك الطريق السويّ الذي تمّت الإشارة إليه، إلا بالإنطلاق من قاعدةٍ واحدةٍ صُلبة يحتضنها الكون كلّه، ولا يصلح أمرٌ في الأرض ولا في السماء إلا بها، ما هي تلك القاعدة؟
قاعدة الإيمان الحق بالله الكامل، وانشداد المسيرة إليه، -أن تؤمن بالله وكل خطوةٍ من خطواتك لا تنطلق إلا من منطلق إيمانك بالله-، وتُقيّدها بطلب رضاه، ما ضابطة ذلك؟ هل تكفي النيّة؟ لا.. وأن يكون السير على هدى شريعته متقيّداً بها كلّ التقيّد، فلستمع المعارضة كلُّ المعارضة.
خامساً: ذلك الهدف والطريق إليه، يضخّان في النفس القوة والعزم والتصميم على الخير، وروح التضحية والفداء من أجل الحق والعزة والكرامة والحرية الرفيعة والكرامة الحقيقية.
إنّه ذلك النصر البعيد الذي لا يناله فردٌ ولا جماعةٌ ولا شعبٌ ولا أمّة، صعبٌ طريقه، شائكٌ دربه، ولن تربح إلانسانية حياتها في يوم من الأيام إلا به، إنه ذلك الطريق النظيف الذي لا تُحدّث صاحبه نفسه بمقارفة ظلم، ومقاربة باطلٍ في طريق هدفها الكبير، عرفتني ماذا أريد؟ أريد الهدف الكبير والنظيف والعالي لا يبرر لي قيد أنملة عن الشريعة، ليس لك هدىً فوق هدى الله تأخذ به من دون هدى الله.
نعم، هو نصر لا تلتزمه إلا نفسٌ لها من أخلاق الله، وأخلاق رسوله وأوليائه الخلّص الكرام العظام المعصومين عليهم السلام، ما يحميها من غلَبة الشهوة والميل للدوافع الشيطانية الأرضيّة.
وهذا النصر حتميٌ لجماعةٍ أو شعبٍ أو أمة وفت بعهدها مع الله سبحانه، كما هو مفاد الآية الكريمة (يا أيها الذين آمنوا، إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)، -لا أنتصر لمشاعري، وقبل أن يكون للخروج من ضيقي هو انتصارٌ لدين الله تبارك وتعالى-.
ولا طريق للنصر إلا بأن تتثبّت الأقدام، ولا قادر على تثبيت الأقدام إلا الله تبارك وتعالى.
وعلى الذين يطلبون النصر أن يعلموا أن طريق النصر صَعبٌ وقد يطول ويطول طريقه، وعِدَّةُ الصبر على تحدياته وتضحياته، نفسٌ سلّمت أمرها إلى الله ورضيت به وأيقنت بكماله وغناه عن عباده وافتقارهم إليه وصِدق وعده ووعيده، هذه العُدّة كافية بأن تحميني من السقوط وأنْ تُثبّت قدمي على الطريق.
أسأل الله بأن يكون لي ولكم من هذا الزاد من يعيننا به على كلّ صعوبات الطريق.
الوقفة الثالثة: عن “العقوبات البديلة” -وهو أمرٌ لا زال داخلاً في قضايا جزء الوطن الكبير وهو البحرين-:
“العقوبات البديلة” الإسم الأصل فيه في تقديري هو “الظلم البديل”.
أولاً: لا قيد على خروج مظلومٍ من سجنه واسترداد حرّيته بعد سلبها، ولا مانع عن ذلك إلا أن يدخل ذلك فيما قاله القرآن الكريم على لسان النبي يوسف “عليه السلام”: (قال ربي السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه)، حين تكون الحالة هي هذه الحالة يبقى السجين في سجنه ولا يخرج، وهذا له مصاديق، وليس المصداق فيه منحصراً فيما كانت عليه حالة النبي يوسف “عليه السلام”.
اخرُج من السجن وكُنْ عيْناً على المؤمنين، فإمّا أن تخرج لتكون عيْناً على المؤمنين وإمّا أن تبقى في سجنك، ما الحكم؟ واضح.. الحكم واضح.. وهناك مصاديق أخرى لا أتعرّض لها.
هناك خروج من السجن فيه ذلٌّ أكبر من ذلِّ السجن، فيه رَهقٌ أكبر من رَهقِ السجن، الراجح عقلاً ماذا؟ الراجح ديناً ماذا؟ مفهومٌ أيضاً..
ثانياً: أصل “العقوبات البديلة” -ثقُلَت هذه العقوبات أو خفّت- أنّها ظلمٌ بديلٌ عن ظلم، واستمرارٌ في سلْب الحقّ، وتَعدٍّ على حرية المواطن وكرامته؛ لأنها عقوبة لمظلومٍ من ظالم.
ثالثاً: و”العقوبات البديلة” لابد أن تُقاوَم كالعقوبات الأصل، ولابد من تطهير المجتمع من كل المظالم، وأنْ لا تكون الحرية الممنوحة من الله عزّ وجلّ مَحلّ المساومة أبداً، وهي منحةٌ لا يجوز لعبدٌ من عباد الله التنازل عنها، ولا المساومة عليها، ولا التساهل في استردادها.
الوقفة الرابعة: صفقة القرن:
موقفٌ عدوانيٌ شرسٌ ومُتحدٍ لأمّتنا كاملها، أقدمت عليه أمريكا وإسرائيل وكلّ من شارك فيها.
خطوةٌ خيانيّة كبرى -لا نقول عن أمريكا بأنّها خانت أمّتنا لأنّها عدو، ولا نقول عن إسرائيل بأنّها خانت أمّتنا لأنها عدو، عَدوَّان صريحان ولا يُرتَقب من العدو إلا الإضرار بعدّوه-.
الخيانة مِمَّن؟
خطوةٌ خيانيّة كبرى ارتكبتها حكوماتٌ عربية من حكومات الأمّة -ويُغني عن ذكرها أنّها أعلنت عن المشاركة في الصفقة وحضرت مُمثلةً في الإحتفال الصهيوني الأمريكي بها-.
وهي صفقة امتحانٌ للأمة وفي مقدّمتها الفلسطينيون، ومن قصّر من فلسطينيين، أو غيرهم من الأمة فلا عذر لهم بتقصير البعض -تقصيري لا يبرر لك تقصيرك-.
الموقف صامدٌ ومقابلٌ للتحدي بالتحدي، واسقاط الصفقة الخبيثة الملعونة ليس فوق مقدور الأمة، ولا عذر لها أبداً في التفريط بالأمر، والواجب يلاحق كلّ الأمة باسقاط هذه الصفقة وما ماثللها وشابهها، واسترداد عزّة الأمة وكرامتها واستقلالها.
هذه الصفقة بابُ رحمةٍ حين تُواجه بالموقف الديني والعقلي والعقلائي، وبابُ نقمةٍ حين لا تُواجه بالموقف الصارم الشديد.
الأمة وبخطواتٍ من مثل هذه الخطوة لو تم التسامح فيها، تذوب، تنتهي، تتلاشى.
الوقفة الرابعة: الثورة البركان والنصر المبين:
كانت ثورة الإمام الخميني (قدس الله سره) بركاناً متفجراً في وجه الإستكبار العالمي وأذنابه والجاهلية الحديثة بكلّ أركانها، ما كانت ثورةً محلية، ولا ذات إطارٍ محدود.
كانت ثورة مبدأ يعلو على كلّ مبدأ، وهو الإسلام. وقائدٍ أعجوبة العصر في القيادات، وهو من صنع الإسلام. وشعبٍ وإنْ طال عذابه تحت حكم الطاغوت والجاهلية إلا أنّه لم ينقطع حنينه عن الإسلام، ولم تنطفىء جذوة الإسلام في نفسه، وكم كان غنيّاً بالرجال المؤمنين الأشدّاء في الله، والفقهاء والعلماء المخلصين الشجعان من أهل التقوى، والكثير الكثير من الصالحين -هذا زادٌ كان موجوداً قبل الثورة، هذه أرضيّة خصبة كانت قائمة قبل الثورة-.
وما أسرع ما هبّ هذا الشعب مستجيباً لنداء الجهاد والبذل في سبيل الله، ينطلق ذلك النداء من حنجرة طاهرة، حنجرة الفقيه العارف المتألّه الإمام الخميني (أعلى الله مقامه).
وكان النصر الذي تحقق على يد الثورة نصراً للإسلام والإنسان، ونصرُ الإسلام أن ينتصر الإنسان، ليس للإسلام نصرٌ مفصولٌ عن إنتصار الإنسان لإنسانيته، وما يترتب على نصر الإنسانية من خيراتٍ وبركاتٍ لا تُعدّ ولا تُحصى.
وكان النصر الذي تحقق على يد الثورة نصراً للإسلام والإنسان، ونصر الإسلام أن ينتصر الإنسان، ولا نصر للإنسان إلا بانتصار الإسلام، وإلا فالإنسان صفر في قيمته.
تلك حقيقةٌ إنْ أخذ بها المسلمون اعتقاداً وعملاً تحقق نصرهُم، وإلا فلا، وإن انتصروا من دون أن يكون طريقهم نصر الإسلام لم يكن نصرهم النصر الحقيقي، وكان هزيمةً في صورة نصر، شأنهم في ذلك شأن كلّ دولةٍ طاغوتيةٍ مستكبرة، لا فرق أي دولةٍ وبين أيّ أمةٍ وبين أمّتنا إلا بأنّها مفارقة لله، ونحن راكعون ساجدون لله.
وما أعظمها كلمة قالها الإمام العارف المتألّه للثورة والدولة، يوم أن توّج الله ثورته بالنصر، وأسس دولته المباركة، وما أشدّ ما أذهل عالم الإستكبار من شعارٍ أطلقه السيّد الإمام على مسامع الدنيا كلّها غير آبهٍ بالقوة الباطشة التي يُغضبها هذا الشعار، ويُثيرها ضد دولته وهي ليّنة العود بعد وفي مهدها لم تقم على ساق، شعارٌ يُعلن على لسان القائد العظيم الذي بيده زمام الأمور ورسم السياسة والموقف، إعلانُ أنّ الجمهورية من ناحية المصالح نِدٌّ للدول الكبرى لا تبع، ومن ناحية الخطّ والهويّة ضدٌّ لا شبيه، وأنّها لأنْ يُقتدى بها لا لأنْ تقتدي بجاهلية هنا أو هناك، وبأيّ تجربة جاهلية من صنع الأرض.
وقد ذهب القائد العظيم والمؤسس إلى رحمة الله ورضوانه ليأتي قائدٌ عظيم آخر من نفس المَعمل، معمل التربية الإسلامية الربانية التي لا يمكن أن تقاربها تربية، وقد جاء بكلّ الكفاءات العالية في كل الأبعاد من الشخصيّة الكريمة ليُرعب بقيادته المباركة كلّ طاغوتيةٍ وجاهلية كما كان سلفه العظيم، مُدخلاً اليأس الكامل على الطاغوتية العالميّة بأنّ الدولة في إسلاميتها وفي ثوريتها وفي نموّها وازدهارها إلى تراجعٍ أو توّقف.
والثورة مستمرةٌ لا تفتُر، نعم ولا تقف عندّ حدّ، وإنما تتصاعد على طريق الحق، وتزداد قوةً وعزّةً يوماً بعد يوم، وتمتدّ آثارها المباركة إلى المسافات البعيدة موقظة الأمة وكلّ العالم ليطلُب النجدة من الإسلام وحده وليس من شيءٍ غير الإسلام.
الوقفة الخامسة: مع حادث الشهيدين الكريمين العظيمين:
كما هي صفقة القرن الباغيّة امتحانٌ لإرادة الأمة فكذلك كان هو اغتيال الشهيدين العظيمين الحاج قاسم سليماني والحاج مهدي المهندس رفيقيّ الجهاد المقدّس، رفيقيّ صراطٍ واحد، صراطٍ أقوم هو صراط الجهاد المقدّس -ولا أقول رفيقيّ درب، لأنّ الدرب طريقٌ ضيّق، وطريق الجهاد صراط، وإذا كان طريقاً فهو ضيق من ناحية ما يُتعِب به الجسد، أمّا هو في حقيقته فهو الصراط القويم-.
نعم، كما هي صفقة القرن الباغيّة امتحانٌ لإرادة الأمة فكذلك كان هو اغتيال الشهيدين العظيمين الحاج قاسم سليماني والحاج مهدي المهندس رفيقيّ الجهاد المقدّس ومن فاز معهما بالشهادة في حادث الإغتيال الأمريكي الغاشم للمجموعة المُجاهِدة التي فُتِتَت أجسادها الطاهرة، مصحوباً ذلك بالتبجح الأمريكي السافر بارتكاب العدوان الغاشم الجبان الذي منبعه قسوة النفس وضلال الفكر وانحراف الطريق.
ولم يتأخر ردّ الأمة الحازم على كُلٍّ من التحديَين ليُيئِس أمريكا من أن يلين عود الأمة أمام غطرستها أو تستكين خضوعاً للقوة الباطشة الغاشمة، ولتعلم أمريكا بأنّ أمتنا حيةٌ ولا تقبل الصبر على الضيم، وليست مستعدةً أن تُفرّط في شيءٍ من دينها ولا عزّتها واستقلالها ولا واحدٍ من رجالها، ولا شِبرٍ من أرضها، ولا أن تُثلَم لها حريّة أو يُنال من استقلالها، وأنّها عازمةٌ وماضيةٌ بجدٍّ وبكلّ كفاءةٍ وبكل اصرارٍ وبك