في فبراير القادم تدخل الثورة الشعبية في البحرين عامها التاسع وسط قتامة في المشهد وتعقيدات خطيرة والناتجة من تصعيد الحالة الأمنية التي تطورت بشكل مفرط بعد حل الجمعيات السياسية والاجراءات التي اتخذتها السلطة ضد معارضيها.
وأيضا التراجع الكبير على المستويات المعيشية والاقتصادية ، الأمر الذي باتت الحاجة فيه ملحة أكثر من أي وقت مضى لوضع خيارات التغيير السياسي على سلم الأولويات الوطنية. منذ فبراير 2011، شهدت البحرين أزمة سياسية فرخت أزمات أمنية واقتصادية واجتماعية شديدة.
ومذّاك، طُرحت مبادرات عدّة من السلطة والمعارضة لكنها لم توضع ضمن خارطة طريق ولم يتم استغلالها بشكل صحيح نتيجة لتعنت السلطة وإصرارها على خيار القوة وإستمرار الإستحواذ الكامل للسلطة ، مما فاقم من أزمة الثقة وعمّق الشرخ المجتمعي الذي ترافق مع تزايد حدة الاستقطاب الطائفي الذي إستخدم كأداة من أدوات قمع الحركة الشعبية المطالبة بالتغيير السياسي، كما زادت الوضع تعقيداً وإختناقاً توافر عوامل استقوت بها السلطة وجعلتها تصر على التعاطي مع المطالب الشعبية بمنطق القهر والغلبة وإستخدام القوة المفرطة ولتجعل من الخيار الأمني خيارا استراتيجيا وحيدا لحل الأزمة السياسية. ومع ذلك، فإن الأثر القمعي لم يتحقق ولو بنسبة بسيطة ، حيث لا تزال المعارضة الحية تتجلى في صور إنسانية نبيلة تؤكد قيمة المبدأ، وفي صور سياسية تؤكد قيمة الانتماء.
وفي زاوية آخرى من المشهد السياسي ، فقد حصرت السلطة نفسها في مربع الحديث المفبرك والمضطرب عن الإرهاب ومحاربته، وقد اضطرتها الظروف في بعض المراحل إلى أن تصنع الإرهاب لتزعم أنها تحاربه، وإلى أن تفجّر القنابل لتشير إلى أنها المستهدفة، مما حول اداء السلطة من فعل سياسي يعمل على استعادة المشروعية التي فرطت فيها السلطة وخسرتها، إلى فعل صناعي يستند في وجوده واستمراره إلى فكرة وصناعة الاستثمار في الإرهاب والاستمرار فيه.
وفي مقابل استراتيجية السلطة، كان رد فعل الثورة وقادتها أكثر ذكاء ومنطقية حيث اعتمدت استراتيجية الصمود، بدلا من فكرة رد الفعل المضاد للإرهاب أو الفعل الإرهابي المضاد.
واستمرت السلطة في هذا النهج ولاتزال بفضل ثلاثية:
التواطؤ البريطاني – الأميركي، والدعم والتمويل الخليجي ، والآلة الأمنية الخليفية. وقد كانت هذه الثلاثية تمثل عناصر القوة التي راهن ولايزال عليها نظام الحكم في البحرين ، وهي عوامل تبدو فاعلة لكنها عقيمة، لأنها تقوم على فكرة وضع اليد ومنطق الغلبة ، وتطبيع المشهد بفرض الأمر الواقع ، وتقوية المنكر، وتصفية الحق. أمام هذا الواقع والذي عمل فيه الحراك الشعبي المعارض ولا يزال ضمن ظروف ذاتية وموضوعية محددة مثل عدم إشهار العمل السياسي، لقسوة الإجراءات القمعية وتحول المشهد إلى الدولة البوليسية وهيمنة أجواء الملاحقات والمطاردات الأمنية والتشويه الإعلامي المنظم، وأحكام السجن القاسية والمجحفة التي طالت معارضين ونشطاء سياسيين لمدد طويلة للغاية تصل إلى المئة عام، فإن مرحلة جديدة لابد أن تبدأ ، وأن خطوة جريئة لابد أن تتخذ كخيار وطني ملح .
وهكذا كانت الخطوة التي أعلنها ائتلاف الرابع عشر من فبراير من تشكيل وإعلان مجلسه السياسي. ففي الثاني والعشرين من ديسمبر الماضي وفي خطوة يمكن القول بأنها نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة ، أعلن ائتلاف الرابع عشر من فبراير عن تشكيل مجلسه السياسي في حفل حضرته شخصيات وازنة ولها ثقلها في المجتمع السياسي في العاصمة العراقية بغداد. الاعلان عن الواجهة السياسية لمكون معارض بحجم الائتلاف كان نتيجة طبيعية تعكس بالإضافة إلى حجم المأزق السياسي الذي تمر به العملية السياسية في البحرين ، حجم الانجازات التي حققها “الائتلاف” ميدانيا على الارض ، كما هي إستجابة ذكية لضرورة وجود صوت سياسي يمثل ويعبر عن مطالب حراكه الميداني في الساحة وعن هويته ومشروعه ومطالبه .
ويرى مراقبون أن قيمة الاعلان أنه ياتي خارج السياق القائم من هيمنة السلطة على زمام المبادرة السياسية واكتفاء جميع قوى المعارضة السياسية بردات الفعل فقط على ما تطرحه السلطة وما تقوم به من مبادرات ، أما إعلان تشكيل المجلس السياسي للائتلاف وفتح مكتب بيروت فهو مبادرة سياسية ربما وضعت أحد أهم قوى المعارضة السياسية في البحرين بموقع “صناعة الفعل” وقيادة زمام المبادرة وجعل السلطة والاخرين في موقع “ردات الفعل” وهو تحول مهم في مسيرة الصراع السياسي في البحرين.
كما أن الاعلان عن تشكيل المجلس السياسي للائتلاف بعد أن أثبت بأنه رقم صعب في معادلة الصراع مع السلطة ، وأن الاعلان بمثابة استكمال لاركان معادلة النزال السياسي مع السلطة ، خاصة وأن الأخيرة قد قامت بقمع المعارضة بشكل يعبر عن روح الإنتقام والتشفي ، وأنها تفتقد لشرعية الحكم وتعيش أزمات خانقة متعددة وأنها بحاجة الى وجود مكون معارض يمتلك من الشعبية والانجاز على الارض ما يؤهله أن يتصدى لهذه العملية الحيوية. وقد جاء الاعلان في وقت باتت الحالة الشعبية في أمس الحاجة الى صوت يعبر عن تطلعاتها المشروعة ، وصوت يتصدى للتعريف بهوية المشروع السياسي للحراك الشعبي ومبادئه ومطالبه ، وتكون لديه القدرة للدفاع عنها.
وفي الوقت الراهن لا يوجد في الساحة من يمكن أن يعتبر ندا للسلطة ويتحدى مشروعها في الهيمنة والسيطرة غير الائتلاف. خاصة أن الطريقة التي تم الاعلان فيها عن تشكيل المجلس السياسي للائتلاف ونوعية المشاركين في المؤتمر تعكس قدرة وجدارة الائتلاف في التحرك في ميدان السياسة والدبلوماسية. وقد كان الاعلان بمثابة توجيه رسالة قوية للغاية مفادها بأن المعارضة في البحرين لديها من المساحة والخيارات ما تستطيع من خلاله التحرك في المجالين السياسي والدبلوماسي ، ففي بغداد يتم الاعلان وفي بيروت يفتتح أول مكتب سياسي علني للائتلاف. كما أثبت الاعلان أن المعارضة ليست مكشوفة الظهر أو يتيمة وأن هناك في هذا العالم من سيوفر الدعم والغطاء والشرعية لها لكي تتحرك وتنشط.
ان اكبر انجاز حققه الاعلان يكمن في حجم المشروعية وقوة الدبلوماسية عندما تستطيع قوة معارضة للسلطة أن تحقق هذا المستوى من الشرعية الدولية والغطاء الذي من خلاله يمكن أن يمهد لتحول تكون فيه هذه المعارضة هي البديل السياسي المشروع لنظام فقد مشروعية بقائه وأصبح أمام تحدي واقعي كبير إسمه الشرعية . وفضلا عن ذلك فأن الاعلان ضخ حجما هائلا من الأمل في ان مسيرة ثورة 14 فبراير الشعبية لم تنته ، وان هناك قوة صمود وتحدي وارادة لا زالت قائمة وانها تواصل المسير.
وأن هذا الاعلان أعطى جرعة ثبات وصمود قوية كانت الساحة تحتاجها في وقت تحاول السلطة ان تقول للعالم وللشعب بانها اجهزت تماما على الحركة المطلبية ، وجاء هذا الاعلان ليقول للجميع عكس ذلك وان هناك لدى الشعب قدرة على الاخذ بمسار الحركة المطلبية للشعب الى افق ومكان اخر. لقد طرح الاعلان بقوة موضوع “الحل السياسي” وجاء بمثابة اعلان عن فشل سياسات القمع والبطش ، وأن هناك مبادرة طرحها الائتلاف كأصعب مكون في المعارضة السياسية تقول خلاصتها بأن هناك استحقاقات وطنية لازمة وواجبة التنفيذ وليعلن بأنه لن يتم التخلي عنها ، ولتقول من جهة ثانية بأن العملية السياسية القائمة تشهد حالة احتقان بل اختناق خطيرة ، وأن رهان السلطة على خيار القمع والبطش والتنكيل لن يزيد الحالة الا تعقيدا وسوءا ، وأن ليس أمام السلطة وداعميها سوى ان يبحثوا عن الية أخرى للخروج من نفق الازمة.
ليس ذلك فحسب ، بل وفر الاعلان الفرصة لجميع قوى المعارضة السياسية ان تقوم بالمراجعة الجادة لتصحيح مسارات مواقفها وعملها في الثورة ، فكما ضخ الاعلان الامل للكثيرين ممن بدأ اليأس يسيطر على تفكيرهم تجاه الحركة المطلبية ، فهو ايضا زاد من جرعة الثقة لدى المعارضة بان الثبات والصمود كفيل بتحقيق المزيد من الانجازات والمكاسب لمصلحة الحركة المطلبية للمعارضة والشعب.
ان الاعلان عن تشكيل المجلس السياسي هو اعلان عن مشروع سياسي كبير وان هذه الخطوة هي بمثابة اعلان عن بداية هذا المشروع الجديد وبان المعارضة اذنت بمرحلة جديدة من العمل . لقد حرّكت مبادرة ائتلاف الثورة الجمود الذي كان يلف هذه الجزئية من الحراك الشعبي المطلبي الواسع ، ووضع حد للكثير من التساؤلات المثارة حول غياب الدور الديبلوماسي والسياسي للمعارضة السياسية في البلاد بما يتوازن مع حجم المجابهة الميدانية على الأرض .
ووضع الساحة أمام مشهد كان تنتظره طويلاً لتقف عند الرؤية والموقف وشرح الأهداف والتطلعات .
وأحرجت المبادرة بالزخم الذي ظهرت به السلطة وجميع حماتها ، تدل على ذلك حجم ردود الأفعال . وربما هي المرة الأولى التي تواجه السلطة في البحرين تحديا سياسيا بهذه الضخامة ، حيث تمكنت قوة سياسية معارضة من أن تجتاح الديبلوماسية بقوة زخم هائلة من شأنها أن تعيد الحسابات فيما يرتبط بوجود قوى سياسية فاعلة وقادرة على المنازلة على أكثر من جبهة .
إن أهم ما تحقق هو أن الائتلاف بمبادرته السياسية انتزع شرعية ضخمة وفتك بمنطقة كانت السلطة تراهن على إحتكارها والحيلولة دون وصول أي طرف معارض إليها بغرض منازلته .
وأصبح ما بعد الثاني والعشرين من ديسمبر ليس كما كان قبله ، والأيام حبلى بما يعكس حجم هذا التحول سياسياً .