لم تكن فعاليّة «لآلئ الميادين» مجرّد اعتصام تضامنيّ مع سجناء الرأي وعوائلهم الصامدة، بل كان منفذًا لمكنونات قلوب أمّهات مرّت عليهنّ أيّام وليالٍ لم يسمعن أخبارًا عن أبنائهنّ، وزوجات ما لهنّ غير الانتظار.
البحرين كانت بالأمس على موعد مع حكايا وقصص روتها أمّهات أسرى وزوجاتهم مع غصّة من لوعة الفراق والبعد، ودمعة ألم وشوق للغائب الحاضر…وبسمة أمل بغد مكلّل بالنصر.
والدة المعتقل محمد الشمالي بقلب يعتصره الحزن والألم تقول أنّ محمد أنهى عامه الرابع خلف القضبان، بينما كان من المفترض أن يكون طالبًا جامعيًّا يتجهز لبدء عام دراسي جديد ويعيش حلم الشباب مع أقرانه.
محمد، حاله حال باقي المعتقلين الذين يتعرّضون للتعذيب والإهانات، لكنّ إيمانه بالنصر يزيده إصرارًا على البقاء صامدًا، وشعاره: «لا أريد أن تذهب سنوات اعتقالي وتحمّلي لكلّ هذا العذاب سدى.. فإمّا أن أخرج مع النصر أم الشهادة».
وتكمل أمّ محمد: هذه قضيّة ابني التي تعلّمها من الإمام الحسين «ع»، وهو يملك حسّ القيادة التي هي من أبرز خصاله، تبيّنت معالمها بوضوح في المعتقل، وهو ما لاحظه السجّانون فصاروا يترصّدون له ويخصّونه بالعقاب والعذاب وسوء المعاملة كلّ مرّة، حتى أنّهم هدّدوه حتى لا يكلّم أي معتقل آخر وإلا سيتعرض للتعذيب، وإذا ما تكلم مع أحد اقتادوه للتحقيق لمعرفة ماذا يخطط محمد، وفي كلّ إضراب داخل السجن أو مظاهرة جماهيريّة مركزية كانت أو داخل إحدى القرى، يعذّب، وهو ما يجري أيضًا على كثير من المعتقلين، إلى جانب تشدّدهم في شروط إدخال الملابس والاحتياجات الأخرى فيعمدون إلى إتلافها فور استلامها انتقامًا منه، إضافة إلى حرمانه إكمال دراسته وهو ما يرغب به وبشدّة.
تضيف الوالدة مع بسمة: ابني محمد كما اعتدناه.. طيب القلب، ومرح الروح، حتى يومنا هذا لم يستطع المعتقل أن يختطف تلك الروح، فهو رغم جراحه لا يبالي بنفسه بل بالباقين ويأخذ على عاتقه مهمّة التخفيف عن زملائه وهو ما دفع حتى بالضباط لأن يثنوا عليه.
ما أقوله من كلمات لن تصف حال ابني وما حلّ عليه خلال هذه الأعوام الأربعة، وما من شيء يخفف عليّ وطأة الفراق والاشتياق سوى الإفراج عن محمد وعن باقي السجناء، فما يتحمّلونه إنّما هو لأجلنا ولرفعة الوطن، فكونوا خير سفراء لهم في كلّ مكان، وساندوهم.
والدة المعتقل أحمد العرب، وهو من المعتقلين الذين ودّعوا طفولتهم في السجن وراء القضبان، استهلّت كلمتها بأبيات شعر تصف حالها وحال باقي الأمهات:
يمه ريح الولد غالي اشمنه شمات
لو يمر لي بطيف الولد يا يمه محلات
لو بالحلم يرجع واشبقنه لحظات
اتغرد عيوني وترد الروح بيا
وبكلّ عزم وثقة أكملت: جميلة هي الحريّة، عروس تختار لها مهرًا من دماء النحور أزكاها.
ومن جراحات الشباب أقساها، حريّة نشتريها بسجن أسرانا، وأي أسرى؟! خيرة الشباب.. أنقاهم.. أشجعهم.. أجملهم… أشدّهم بأسًا.
أم أحمد أوضحت للحاضرات أن التضحيات كبيرة وجسيمة ولكنّ عوائل الأسرى من أمّهات وزوجات وأخوات وبنات هم أهل لها، فمع كلّ دمعة لؤلؤيّة تسيل من مقلة أم محزونة أو زوجة فاقدة أو طفلة مكلومه، ثمّة نصر جميل يولد في الأفق.
السجن ليس قدرًا بل ممر عبور لغد أجمل؛ غد أنقى.. بلا ظلم.. بلاقهر.. بلا آلام.
السجن ليس عارًا حين يتحوّل إلى معتقل يحوي بدورًا وأقمارًا اشتروا بعذاباتهم وجراحاتهم مستقبل وطن جثم عليه غول الاستبداد.
ورغم شوقها إلى ابنها لم تنس باقي المعتقلين فقالت: «أحمد العرب» ذو السبعة عشر ربيعًا محكوم عليه بأكثر من 130عامًا، علي هارون، إلياس الملا، محمد فرج، علي أكبر، محمد مشيمع، حميد الخاتم، رضا الغسرة، السنكيس، والصنقور، ورمضان، والسميع، والقائمة تطول وتطول لتشمل باقة من زهور الوطن؛ باقة تتخللها زهرات البنفسج العبقة هنّ نساؤنا الأسيرات.
وجدّدت العهد أم أحمد: نعاهد كل أسير وأسيرة ومهجّر، على أنّنا وإن طال الزمان لن نترك مطالبنا. أنتم وما خرجتم من أجله هو قضيّتنا، ونحن قوم لا نترك أسرانا في السجون، هكذا وعدنا الله «جلّ وعلا» حين قال: «وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ* وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ…».
والدة المعتقلين صادق وعلي جعفر عاشور وجدت المنبر ملاذًا لذكرياتها عن ابنيها، فروت قصّتهما قائلة: ابني صادق، عريس جديد، لم يمض 3 أشهر على زفافه، اعتقل وحكم عليه بالسجن 3 سنوات. أمّا عليّ ولدي الأصغر، حكم عليه بـ 19 سنة سجن، وهو منذ كان في 14 من عمره وهو يعتقل ثمّ يفرج عنه ثم يعتقل لينهي محكوميّته ويفرج عنه، لا يبقى معنا شهرًا أو شهرين حتى يعاد اعتقاله، 5 مرّات وهو على هذه الحال، قضى 6 أشهر في الأحداث لأنّه كان طفلًا.
اليوم علي في 19 من عمره وهو معتقل، وكوني أمًا لمعتقلين أطالب الحقوقيّين والمنظّمات الحقوقيّة بأن يتحرّكوا لينال المعتقلون حقوقهم المشروعة التي ضمنها لهم القانون.
زوجة المعتقل حسن رضي البقالي، بدأت كلمتها بالتعريف بزوجها الخلوق الهادىء الذي ولد وترعرع في ربوع البحرين، على يد سيّدة جليلة القدر علّمته معنى الرجولة والشهامة، وهذّبته وأحسنت تربيته حتى اشتدّ عوده، فبدأت معاناتها وهي ترقب الطرقات وتنتظر عودته كلّ ليلة.
وحسن اعتقل أكثر من مرّة، آخرها كان قبل اندلاع الثورة وأفرج عنه في ميدان اللؤلؤة، ليعود بعد الهجوم على المعتصمين إلى لائحة المطاردين والمطلوبين لدى كبار الضباط الذين داهموا منزله عشرات المرات بحثّا عنه، مروّعين والدته وأسرته.
تمكّن حسن من مغادرة البحرين خائضًا غمار الغربة وآلامها، حتى قرّر التوجه إلى ألمانيا ولكنّه كان بحاجة إلى تأشيرة دخول، فتوجّه إلى سلطنة عمان للحصول عليها وهناك تمكّنت منه المخابرات البحرينيّة واعتقل ليبدأ مشوار التعذيب والتنكيل والمعاناة التي يندى لها الجبين، وطال الحديث تتخلّه الدموع وغصّات الأسى…
وتسأل زوجة البقالي: لا أعلم، هل نبكي على هذا الظلم الذي يلاقيه الشباب في السجون أم على الشعب ألا يتغافل عن جراحات المعتقلين وأهاليهم؟
ولزوجات المعتقلين وأمهاتهم الفاضلات كلمة من زوجة المعتقل حسن: «إلى كلّ زوجة معتقل كوني قويّة فمن قوتكِ أنت يستمدّ زوجك الأمل والصبر، ولا تيأسي من رحمه الله وعونه، وإيّاك ثم إيّاك أن تهربي بجبن من ذلك الامتحان الذي جعلك الله فيه ليرفع من درجتك ودرجة شريك حياتك.
وإلى الأمهات العفيفات الصابرات لا يسعني إلا أن أقف إجلالًا لكنّ، ولكلّ المصاعب التي تكبدتهنّ من أجل تربية أبنائكنّ تربية صالحة، وما زلتنّ على الطريق التي مشت عليه سيّدتنا أم البنين «ع» تعلمن أبناءكن معنى الوفاء والفداء، فهنيئًا لكنّ هذا المقام، وكنّ على ثقة بأنّ الله ينظر إلى أبنائكنّ نظرة أحنّ من نظرتكنّ إليهم وإنّ الفرج قادم لا محال».