ما زالت ذكرى «دوّار اللؤلؤ» تقضّ مضاجع آل خليفة، وخاصّة الديكتاتور حمد، كيف لا؟ وما جرى في فبراير ومارس 2011 أغرقه في وحل الذلّ والتبعيّة لآل سعود، التي وإن كانت موجودة قبل ذلك فإنّها كانت مستترة في الأروقة المظلمة تومض على شاكلة قرارات ومواقف يحيكها السعوديّ كيفما شاء ويتلوها الخليفيّ متى اقتضى ذلك، لكنّ يوم الغضب أثار بركان الشعب فأطلق حممه على آل خليفة وأماطت اللثام عن فضائحهم، وفاحت رائحتهم الكريهة، وخيّبت آمالهم باستقلال وهميّ حين اضطرّوا إلى إباحة بلادهم للسعوديّ، والرضا بحكم مزعزع متهاوٍ لا يتجاوزون فيه كونهم «أراجوز» بيده.
أكثر من خمس سنوات نقل فيها الشعب البحرانيّ الأبيّ ثورته، بعد إقدام حمد على هدم صرح دوّار اللؤلؤ في محاولة منه لطمس معالم فشله الذريع بتأدية دوره «ملكًا» على مملكة شيّدت قصورها من رمال سعوديّة، إلى الشوارع والساحات وحتى الزنازين.
الخليفيّ بعد أن بان عجزه ووهنه للعالم بات السعوديّ يميل مركبه كيفما تعصف به رياح المنطقة، فإن شعر بنصر ما في منطقة ما مدفوع ثمنه من دماء الأبرياء، أرخى خناقه عن الخليفيّ وسمح له أن يستنشق بعضًا من رائحة الرخاء، وإن ابتلي بهزيمة، وما أكثرها من هزائم، شدّ عليه الخناق حتى يصب جام غضبه المكبوت على الشعب البحرانيّ الأبيّ، وما الأحكام المغلّظة الصادرة عن قضائه الفاسد، والسجن المؤبّد، وكثرة الاعتقالات والمداهمات، وعمليات القتل والتعذيب، إلا دليل على ذلك.
وتوازيًا مع حجم الخسائر التي تكبّدها السعوديّ، خاصة في اليمن، صعّد الخليفيّ من حدّة جرائمه بحقّ الشعب البحرانيّ، حين صادق الديكتاتور حمد على قرار بنزع جنسيّة أكبر عالم دين لأكبر طائفة في البلاد، ألا وهو سماحة الشيخ عيسى قاسم، بل لم يكتف بذلك حيث هدّده بالترحيل عن وطنه وعرضه على المحاكمة.
أمام كلّ ذلك، لم يقف الشعب البحرانيّ، الذي اعتاد النضال والجهاد من أجل قضاياه المحقّة، متفرّجًا بل ارتدى أبناؤه الأكفان وتوجّهوا حاملين أرواحهم على أكفّهم استعدادًا للذود عن آية الله وصون مقدّسات الإسلام، وافترشوا الأرض في محيط بيت سماحته، في منطقة الدراز، التي حاصرتها عصابات المرتزقة وأغلقت منافذها للحؤول دون استمرار الاعتصام، الذي خيّب آمالها بصمود المعتصمين فداء للدين.
«ميدان الفداء» صار معلمًا من معالم ثورة 14 فبراير، لم تثن الشمس الحارقة ولا درجات الحرارة المرتفعة، ولا صيام شهر الله، هؤلاء المعتصمين عن الثبات في موقفهم الرافض للاضطهاد الطائفيّ، كما أنّه وحّد الصفوف وعمّق روح الأخوّة بين مختلف أطياف البحرانيّين، الذين أحاطهم أهالي الدراز الصامدين بكلّ دعم معنويّ وماديّ.
وقد كان لمركز الأخبار لقاء مع أحد المعتصمين في «ميدان الفداء»، الذي عبّر بالكلمات عمّا يجول في نفسه ونفوس بقيّة المعتصمين، مختصرًا الموقف والهدف والدافع في حواره.
حيث قال «في أيّ زمان ومكان يجب أن نكون سنكون، نهارًا أو مساءً، صيفًا أو شتاءً، عيدًا أو عزاءً، ولن تشغلنا المناسبات والظروف ومشاغل الحياة والمال والبنون والأهل عن نصرة الدين الحق، ونحن مستعدوّن لأن نترك راحة الدنيا ولذاتها الفانية لراحة الآخرة الأبدية الباقية، ولن تهزم الصعاب إرادتنا إن شاء الله، لأنّنا نعلم: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ ۖ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ ۗ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)».
وفي وصفه لحالة المعتصمين أضاف «هنا نقضي اليوم مرابطين مجاهدين، ونعتقد أنّنا ضيوف الله في كلّ لحظة، ومشمولون بلطفه وعطفه كلّ آن، أنفاسنا تسبيح ونومنا عبادة، ونعلم أنّ البلاء للولاء والاصطفاء، فهنا يختار الله أولياء دينه وأنصار أوليائه».
وكان لهذا المعتصم كلمتان، إحداهما لأهالي الدراز الشرفاء الأوفياء، أشاد بها بجهادهم وكرمهم وحسن ضيافتهم، شاكرًا إيّاهم على كلّ ما قدّموه لهم ومن أجل حفظ آية الله قاسم.
والثانية وجّهها للنظام الفاقد كلّ معاني النظم والانضباط القانونيّ، والشرعيّ، والأخلاقيّ، والإنسانيّ، مخاطبًا إيّاه «هنا أبناء الحسين بن علي «ع»، هنا ألف عابس، وألف قاسم، وألف حبيب، وألف حسينيّ كربلائيّ فدائيّ، مستعد للشهادة، بل منتظر لها، لا يرضى لنفسه، وأهله، وأبناء وطنه، وأرضه ذلة أو احتقار، وقد أثبت ذلك بلبس الأكفان مرّات ومرّات، وامتحنته أيدي الآثام كرّات وكرّات، فليس هو أهل فرار ولا انكسار، والموت عنده أولى من ركوب العار، وشعاره على مدى الدهور والأعصار، شعار أبيِّ الضيم وأبي الأحرار: ألا إنّ الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلّة والذلّة، وهيهات منا الذلّة».
إذن، هي حرب ضروس، عمادها طول النفس والقدرة على التحمّل والصبر، وهل من شعب يملك طول النفس أكثر من الشعب البحرانيّ؟ وهل من لديه القدرة على تحمّل الصعاب والصبر على المحن أكثر من الشعب البحراني؟
هي الأيّام ستثبت أنّ الغلبة لأبناء الأرض الأصلاء، والخزي والعار للدخلاء الغرباء.