في خضم الزمان، نجد جراحًا تنزف وصفحات تُطوى وأحداثًا تُنسى، لكنّ ذاكرة الوطن لا تعترف بالنسيان عندما يتعلّق الأمر بالأوجاع الكبرى؛ أوجاعٍ سطّرت بحروفٍ من دمٍ وأسى تاريخ شعبٍ نبيلٍ، وهي ذكرى غزو آل خليفة للبحرين، هذه الذكرى المشؤومة التي استوطنت المأساة، وأبت إلّا أن تكون نقطة انطلاق للنضال والثورة.
لم يكن الغزوُ هبّةَ وافدٍ تُرحّب به البساتين والأفئدة، بل كان هجمةَ ليلٍ أطبقت على أنفاس البحرين وشعبها، لتكتم هواء الحريّة الذي كان يعبق في أراضيها. إنّه القرن الثامن عشر والعام 1783، حيث انقلبت موازين الحقّ والعدل واستبيحت الأرض والعرض على يد قبيلة آل خليفة الذين خلّفوا وراءهم ملاحم الألم والتشريد.
لقد عُرفت مراحل حكم آل خليفة بالضغينة والتنكيل، وشهدت البحرين مآسي تتوارد في حكايا الاضطهاد الدينيّ والعرقيّ وهضم الحقوق السياسيّة والاجتماعيّة؛ فلم تكن المكائد تنقطع ولا الأيدي التي تسعى إلى نزع الخيرات تستكين، وإنّما كانت البحرين وشعبها في ظلّ معاناة مستمرّة، يُستباح فيها العزيز ويُهدر فيها الحرم.
وعندما ننظر إلى أفق الأحداث الراهنة، نجد أنّ ثورة 14 فبراير 2011 لم تكن سوى بصيص ضوء في نفق المعاناة الطويل. لقد قُمع الناشطون، واعتُقل الحقوقيّون، وسُفكت دماء الأبرياء في ساحات الكرامة وخلف القضبان، حيث الزنزانات تفيض بروايات التعذيب والإهانات والإذلال الإنسانيّ فأقلّ ما كان يقال عمّا جرى أنّه جرائم ضدّ الإنسانيّة، تُرتكب بحقّ المطالبين بالعدل والحريّة، ولكنّ الشعب ظلّ يرفض الخضوع.
تشكّل الأوضاع الحاليّة في البحرين نوعًا من الصراع الوجوديّ لشعبها؛ فالخراب الذي يلحق بالثقافة والإرث البحرانيّ يهدّد هويّة البحرانيّين الأصلاء وجذورهم التي عمّقتها أجيال من سكّان هذه الأرض الطيّبة.
ولكن، بالرغم من كلّ الجلجلة التي تحيط بهذا الشعب الفخور، يظلّ الإيمان بالحريّة متّقدًا في قلوب أبناء البحرين. إنّ العزيمة التي لا تلين هي من تُظهر أنّ الشعب البحراني لن يكون لقمة سائغة بين أنياب التاريخ وجور السلطة.
لذا نقف هنا على أعتاب الثورة المستمرّة، ونجدّد القسم بألّا يهدأ بالنا حتى استعادة الفجر البحرانيّ بكافة ألوانه وأديانه وطوائفه. نقف يدًا واحدةً في وجه الاحتلال ونحمل لواء العدالة والحريّة التي لا يجب أن تكون حكرًا على شعب دون آخر.
إنّ هذا الحراك ليس من أجل البحرين وحدها، بل هو منارةٌ لكلّ الشعوب التي ترزح تحت وطأة الظلم والاستغلال. فالدم الذي يجري في ثرى هذه الأرض لن يذهب هدرًا، والأصوات المنادية بالحقّ ستُسمع وإن كانت همسًا، ولن تهدأَ النفوس حتى يعيد النضالُ الحقّ إلى نصابه، فلتكن هذه الكلمات نداءً إلى كلّ ضميرٍ حيٍّ: إنّ صوتَ الحريّة لن يخبو، والنضال من أجل العدالة لن يهدأ، والذكرى المشؤومة ستتحوّل يومًا ما إلى عيدٍ يُسطّر بالنور والأمل والخلاص.