بسمِ الله الرحمن الرحيم، اَلْحَمْدُ للهِ الَّذي يُؤْمِنُ الْخائِفينَ، وَيُنَجِّي الصّالِحينَ، وَيَرْفَعُ الْمُسْتَضْعَفينَ، وَيَضَعُ الْمُسْتَكْبِرينَ، ويُهْلِكُ مُلُوكًا وَيَسْتَخْلِفُ آخَرين، والصلاةُ والسلامُ على أشرفِ الأنبياءِ والمُرسلينَ النبيّ الأكرمِ محمّدٍ وعلى آلِهِ الطيّبينَ الطاهرينَ.
يحلُّ شهرُ محرّمٍ الحرام، شهرُ الحزنِ والمصيبةِ والبكاءِ بدلَ الدموعِ دمًا، شهرٌ تقابلَ فيه معسكرانِ متضادانِ، معسكرٌ تجسّدَ فيه نورُ الإسلام، تجسّدَ فيه الفجرُ وليالٍ عشر، تجلّى فيه الحقُّ وكلُّ القيمِ والنُبلِ الأخلاقيّةِ والإنسانيّةِ، ومعسكرٌ تجسّدَ فيه الظلامُ والباطلُ، تجسّدِ فيه الضلالُ والانحرافُ، وبانت فيه حسكةُ النفاقِ، وما إنْ انجلتِ الغبرةُ حتى كان سيّدُ شبابِ أهلِ الجنّةِ الإمامُ الحسينُ «عليه السلام» على بوغاءِ كربلاءَ مضرّجًا بالدماءِ محزوزَ الرأسِ من القفا، وبناتُه سبايا وإلى الله المشتكى، فظنّ يزيدُ أنّه بقتلِهِ الحسينَ وأبناءَه وإخوانَه وأصحابَه قد انتصر، وغفل عن أنّ هذا القتلَ أحدثَ انقلابًا في وعي الأمّةِ فتتالتِ الثوراتِ بعد حادثة عاشوراءَ وشعارُها: «يا لثاراتِ الحسين»، وتحقّق بذلك هدفُهُ «عليه السلام» الذي كان قد أعلنَه: «إنّما خرجتُ لطلبِ الإصلاحِ في أمّةِ جدّي محمّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)»، وانتصر الحقُّ على الباطلِ؛ ﴿إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾.
من وحيِ ثورةِ الحقِّ على الباطلِ، وتحت شعار «إيمان وإباء»، نستلهمُ الدروسَ الكثيرةَ ونوجّهُ الرسائلَ المتنوّعةَ:
الرسالةُ الأولى: ما إنْ رحلَ النبيُّ محمّدٌ «صلّى الله عليه وآله» ولم يكنْ قد وُوريَ الثرى حتى انقلبتِ الأُمّةُ، وشهدتْ تحوّلاتٍ دينيّةً وسياسيّةً واجتماعيّةً، وصلَ أوجُها بعد استخلافِ معاويةَ لابنِهِ يزيدَ المعروفِ في أوساطِ المسلمينَ بالفسقِ والفجورِ، «ويزيدُ رجلٌ فاسقٌ، شاربُ الخمرِ، قاتلُ النفسِ المحترمةِ، معلنُ بالفسقِ والفجورِ»، ما أدّى إلى اضمحلالِ الحقِّ واندراسِ الدينِ الحنيفِ وظهورِ الباطلِ، فما كان من الإمامِ الحسينِ «عليه السلام» إلّا رفضُ البيعةِ: «ومثلِي لا يبايعُ مثلَهُ»؛ ليؤدّيَ بذلك واجبًا عظيمًا من واجباتِ الدينِ، وتكليفًا من التكاليف الإلهيّة «مِنْ رأى منكُم سُلطانًا جائرًا»، ويعطي كلَّ المسلمينَ على مرِّ التاريخِ درسًا عمليًّا مفادَهُ أنّ الظلمَ والجورَ والفسقَ والفجورَ أمورٌ لا يمكنُ المهادنةُ فيها أو السكوتُ عنها مهما استلزمَ أداءُ هذا التكليفِ من تضحياتٍ، ثمّ إنّ تشخيصَ التكليفِ والعملَ عليه لا يختصّانِ بزمانٍ دون زمانٍ بل متى ما وُجدتْ أسبابُ المواجهةِ فالتكليفُ موجودٌ، والاختلافُ فقط في كيفيّةِ أداءِ الواجبِ وأساليبِه.
الرسالة الثانية: الوعيُ والبصيرةُ من العواملِ المهمّةِ لاتّباعِ المنهجِ الحقِّ والعملِ بهِ، فعليٌّ الأكبرُ لم يكنْ وقوفُهُ إلى جانبِ النهضةِ الحسينيّةِ بسببِ ارتباطِهِ بأبيه «عليه السلام»، وإنّما كان نتيجةَ وعيِهِ وإيمانِهِ بحقانيّةِ القضيّةِ التي خرجَ من أجلها أبوه الإمامُ الحسين «عليه السلام»؛ «أَوَلسنا على الحقِّ؟ إذًا واللهِ لا نبالي أوقعنا على الموتِ أو وقعَ الموتُ علينا!!»، فهذا هو شعورُه وبصيرتُه بالمسؤوليّةِ الملقاةِ على عاتقهِ كشابٍ مسلمٍ مؤمنٍ وهو يرى الفسادَ والانحرافَ ينخرانِ جسدَ الأمّةِ ويُمزّقانِ أوصالَها، والنموذجُ الآخرُ هو القاسمُ ابنُ الإمامِ الحسنِ «عليه السلام» قدوةُ الشبابِ في الإيمانِ والتضحيةِ، إذ إنّ إدراكَه على صغرِ سنِّهِ واستيعابَه لما يجري من حوله جعلَه يقولُ في جوابِ عن سؤالِ عمّهِ أبي عبدِ الله «عليه السلام»: كيف ترى الموتَ؟ «أحلى من العسلِ»، وغيرُهُما من الشبّانِ الذين استُشهدُوا في واقعةِ كربلاء، حيث كانَ للشبابِ المؤمنِ دورٌ مهمٌ وفاعلٌ ومؤثرٌ في معركةِ عاشوراء وقد أبلوا فيها بلاءً حسنًا، وجاهدوا جهادَ الأبطالِ مع قائدِهِم، ونازلوا الأعداءَ ببسالةٍ وشجاعةٍ قلّ نظيرُهُما، فمن عاشوراءَ ومن طريقِها وقدوتِها من الشبّانِ تبدأُ مسيرةُ الشباب، ويبدأُ التغييرُ لأنَّ هذه الفئةَ من المجتمعِ قادرةٌ على صناعةِ التغييرِ الاجتماعيِّ والسياسيِّ، وإحداثِ الكثيرِ من المتغيّراتِ، والوقوفِ في مواجهةِ الفسادِ والانحرافِ، مستلهمةً الدروسَ والسلوكَ القويمَ في الحياة من عطاءِ الثورةِ الحسينيّةِ.
الرسالة الثالثة: لا ينبغي الغفلةُ عن الدورِ الفاعلِ للمرأة في النهضةِ الحسينيّة، فعقيلةُ الطالبيّينَ «السيّدةُ زينبُ بنتُ أميرِ المؤمنين (عليها السلام)» صدحتْ بالحقّ أمام الطاغيةِ يزيدَ في مجلسِهِ، وهي تخاطبه: «فكِدْ كيدَك، واسْعَ سعيَك، وناصِبْ جهدك، فوَاللهِ لا تمحو ذِكْرَنا، ولا تُميت وحيَنا، ولا تُدرِكُ أمَدَنا، ولا تَرحضُ عنك عارها، وهل رأيُك إلاّ فَنَد، وأيّامك إلاّ عَدَد، وجمعك إلاّ بَدَد!! يوم ينادي المنادي: ألاَ لَعنةُ اللهِ علَى الظالمين»؛ لقد مهّدتْ بهذه الصرخةِ الطريقَ للحرائرِ إلى أن يرفعْن صوتَ الحقِّ في وجهِ السلطانِ الجائرِ مهما علا شأنُه ومهما ملك من قوّةٍ، وأنّ المرأةَ قادرةٌ بلسانها على صنعِ التغييرِ وتقريرِ المصير، وقادرةٌ على نشرِ الفكرِ الحسينيّ الإصلاحيِّ، فهي المربّيةُ والمسؤولةُ عن صلاحِ المجتمع، والقادرةُ على استمرارِ المسيرةِ وتحقيق الأهداف الحسينيّةِ في المجتمع.
الرسالة الرابعة: لقد أرسلَ الإمامُ الحسينُ «عليه السلام» مجموعةً من الرسائلِ وهو في مكّةَ من بينها ضرورةُ تعظيمِ شعائرِ اللهِ «عزّ وجلّ»، وأوّلُها تعظيمُ البيتِ الحرامِ، وتعظيمُ الأحكامِ الشرعيّةِ والدعوةُ إليها، ﴿ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوب﴾.
والتعظيمُ مفهومٌ واسعٌ لكلِّ شعيرةٍ ندبنا إليها الشارع، بل شاملٌ لجميعِ الأعمالِ الدينيّةِ التي تُذكّرُ الإنسانَ باللهِ سبحانَه وتعالى وعظمتِه، وتعظيمُ كلِّ ذلك وإحياؤُه دليلٌ على تقوى القلوب، فالمشاركةُ في صلاةِ الجمعةِ والإسهامُ في إحيائِها بالمال شعيرةٌ باعثةٌ على التقوى، والصدُّ عنها أو تعطيلُها خلافُ التقوى وخلافُ ما أمرَنا به اللهُ تبارك وتعالى، ومن جملةِ الشعائرِ التي أمرَنا بتعظيمِها إحياءُ الشعائرِ الحسينيّةِ كما يليقُ بها ووفقَ الضوابطِ الشرعيّة، فإنّ تعظيمَها تعظيمٌ للدينِ وإحياءٌ للثورةِ الحسينيّةِ والأهدافِ التي خرج من أجلها إمامُنا «عليه السلام»، وضحّى بدمِه وبالصفوةِ من أهل بيتِه وأصحابِه.
الرسالة الخامسة: كان من رسائلِ الإمامِ الحسين «عليه السلام» أيضًا وهو في مكّةَ خروجُه منها يومَ الثامنِ من ذي الحجّة، إذ أرادَ بذلك إيصالَ رسالةٍ إلى جميعِ حجّاجِ بيتِ اللهِ الحرام أنّ التكاليفَ قد تتزاحمُ، فيقدَّمُ الأهمُّ منها وليس بالضرورةِ أن يكونَ الحجُّ هو الأهمُّ بل ثمّةُ تكليفٌ إلهيٌّ أهمُّ منه، إذ قال: «ألا ومن كان باذلًا فينا مهجتَه، موطنًا على لقاءِ اللهِ نفسَه فليرحلْ معنا، فإنّي راحلٌ مصبحًا إن شاء الله»، أيْ من كان منكم يرجو لقاءَ اللّه تعالى يومَ القيامة لقاءً يسرُّه ويرضِيه، ويطمعُه في ثوابِه وعطائِه، فليلتحقْ بنا، وهنا يتبيّنُ حرصُ الإمامِ على أداءِ مثلِ هذا التكليفِ الإلهيّ، مهما كان من تضحياتٍ جسيمةٍ في سبيلِ أدائِهِ ما دام فيه استقامةُ الدين، وإعادتُه إلى كلِّ المجتمعاتِ، والى حياةِ الناسِ الفرديّةِ، والاجتماعيّةِ، والسياسيّةِ.
الرسالة السادسة: من أهمِّ ما ينبغي أن تلتفتَ إليه الشعوبُ والدولُ الإسلاميّةُ، ولا سيّما الشباب، هو التمسّكُ بالدينِ والعقيدةِ التي لها أصولٌ قرآنيّةٌ ونبويّةٌ تعدُّ مبادئَ ومنهجَ وخطوطَ حمراء لكلِّ إنسانٍ مسلمٍ يتديّن بدينِ الإسلام، وفي سبيلِ الحفاظ عليها تبذل التضحياتِ، فما نشاهدُه اليومَ من حكمةٍ قائدٍ وعالمٍ ربانيٍّ «آية الله العظمى السيّد علي الحسينيّ الخامنئيّ (دام ظلّه الوارف)»، وشجاعةٍ وصلابةٍ وثباتٍ، هو انعكاس لذلك، فسماحته لا يهابُ الموتَ ولا يخافُ في اللهِ لومةَ لائم، ولا يتردّدُ في قولِ الحقِّ أو فعلِ الصوابِ ومعه ﴿رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾، دماؤهم دماءُ الفاتحين، رايتُهم لا يحملُها الخائفونَ والمتردّدونَ والمرجفونَ، وهي رايةُ العدلِ والحقِّ، رايةُ القرآنِ والسُنّةِ النبويّةِ الشريفةِ، رايةُ النفوسِ الأبيّةِ من أن تؤثرَ طاعةَ اللئام على مصارعِ الكرام، فلا سبيل إلّا بتوحّدِ كلِّ شعوبِ العالمِ الإسلاميّ، والوقوفِ مع هذا القائدِ العظيمِ في قبال الغطرسةِ الصهيو-أمريكيّةِ التي تريدُ أن تتحكّمَ في المنطقةِ كلِّها، ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾، وأثبتتِ الجمهوريّةُ الإسلاميّةُ أنّ كلمةَ الحقِّ تعلو ولا يُعلا عليها، وها هي قد انتصرتْ بإيمانِها واقتدائِها بالإمامِ الحسين «عليه السلام» على الغطرسةِ الأمريكيّةِ، وأذلّتِ الصهاينةَ، وما النصرُ إلّا من عندِ اللهِ العزيز الحكيم.
اللهم ارزقنا شَفاعَةَ الحُسَيْنِ يَوْمَ الوُرُودِ وَثَبِّتْ لِي قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَكَ مَعَ الحُسَيْنِ وَأَصْحابِ الحُسَيْنِ الَّذِينَ بَذَلُوا مُهَجَهُمْ دُونَ الحُسَيْنِ عَلَيهِ السَّلامُ.
رئيس مجلس شورى ائتلاف شباب ثورة 14 فبراير
الخميس 26 يونيو/ حزيران 2025م